من منا لا يحب الـ “آيس كريم”؟ تلك الأكلة الاستثنائية التي يتنافس عليها الكبار والصغار على حد سواء! فوفقا للرابطة الدولية للألبان، يتم استهلاك 3.7 مليون طن آيس كريم في الولايات المتحدة وحدها كل عام، بمتوسط 10 كيلو جرامات للشخص الواحد. وبالرغم من هذا الاهتمام الكبير والإقبال الضخم على الـ آيس كريم، إلا أننا نادرا ما نتساءل: متى وكيف ظهر الـ آيس كريم في عالمنا؟
قد يندهش أغلبنا عندما يعلم أن الإنسان عرف نوعا مبكرا من الـ آيس كريم منذ آلاف السنين! ففي القرن الخامس قبل الميلاد، كان اليونانيون القدماء يستمتعون بتناول المثلجات المخلوطة بنكهات العسل والفواكه.
وعلى الرغم من أن أبقراط -المعروف بأبو الطب- استخف بتلك المثلجات وزعم أنها غير صحية وحذر مرضاه من تناولها معتقدا أنها تحدث اضطرابات في المعدة، إلا أن المثلجات كانت تتمتع بشعبية هائلة في جميع أنحاء بحر إيجه، حتى أن الإسكندر الأكبر كان واحدا من أكبر عشاق المثلجات، وهي الصفة الوحيدة التي ربما تشاركها مع أعدائه التاريخيين، الفرس!
ففي الوقت الذي كان ينتقد فيه أبقراط اليونانيين لتناولهم المثلجات المحلاة، قام اليونانيون بابتكار نوع من الحلوى مصنوعة من ثلج له نكهات بطعم ماء الورد، وعلى شكل شعيرية، وهو ما يكشف حرصهم على تطوير هذه الأكلة وارتباطهم بها.
تطور تكنولوجي
استلزمت شعبية المثلجات في العصور القديمة تحولا تكنولوجيا يضمن لها البقاء فترة أطول. ففي ذلك الوقت المبكر، كان لا يمكن تناول المثلجات إلا في أوقات محددة بالعام، خلال الأشهر التي تشهد برودة شديدة حيث يسهل صنع الثلج، وكان على من يريد تناولها في الصيف الصعود إلى قمم الجبال حيث تنخفض الحرارة، وبخلاف تلك الأوقات والأماكن، لمن يكن من المتاح تناول المثلجات والأهم من ذلك أنه كان من المستحيل تخزينها.
لحل هذه المعضلة تطلب الأمر ابتكار نوع فريد من المباني، يعرف حاليا باسم “بيت الثلج”. وهو عبارة عن غرف حجرية مبنية تحت الأرض ومعزولة بشكل كامل بالقش، كانت هذه الغرف قادرة على توليد درجات حرارة منخفضة بما فيه الكفاية للحفاظ على الجليد الذي يتم قطعه من البحيرات والأنهار المتجمدة في الشتاء، أو الثلج الذي كان يتم جمعه من أعلى قمم الجبال.
وبناء على هذا الابتكار، بات العلماء يعتقدون أن كل حضارة لجأت إلى صناعة “بيت الثلج” أو حجرات شبيهة، هي بالضرورة حضارات عرفت الـ آيس كريم -المثلجات المحلاة- إلا أن هناك خلافا حول الوقت الذي ظهرت فيه هذه الغرف لأول مرة.
حيث تقول بعض الدراسات أن سكان بابل ربما قاموا ببناء “بيوت ثلج” بدائية في وقت مبكر، حوالي ألفي سنة قبل الميلاد! فيما تشير بعض الأدلة إلى أن الإسكندر الأكبر كان يمتلك “بيت ثلج” لحفظ المثلجات الخاصة به.
لكن الثابت أن “بيت الثلج” كان يبنى ويستخدم بانتظام في روما القديمة، وسهّل انتشار هذا النوع من غرف التبريد تطوير تجارة الثلج وازدهارها عبر أوروبا والشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط، وبحلول العصور الوسطى، كان الثلج معروضا للبيع في معظم الموانئ الكبيرة في العالم القديم.
أسباب فيزيائية!
وبالرغم من أن المثلجات تمتلك هذا التاريخ الطويل الضارب في القدم، إلا أن الـ آيس كريم كما نعرفه في الوقت الحاضر -المصنوع من منتجات الألبان المجمدة- لم يظهر إلا في عصور متأخرة نسبيا، فخلال عهد أسرة تانغ (618 – 907م)، صنع الصينيون كرة دسمة باردة مصنوعة من حليب الجاموس والدقيق والكافور ومخلوطة بالثلج.
ولكن بينما كان من السهل تبريد الحليب، فقد ثبت أنه من الصعب جدا تجميده وتحويله إلى حليب مثلج. فنحن نعلم في الوقت الحاضر أن الحليب يتجمد في درجة مئوية أقل بقليل من درجة تجمد الماء، وحشو الحليب في الثلج لا يجعله باردا بالدرجة الكافية ليصبح مادة صلبة متجمدة.
لذا كان التحدي الذي يواجه صناع الـ آيس كريم قديما، لم يكن مقتصرا على كيفية تخزين الـ آيس كريم، ولكن كيفية جعله أكثر برودة لدرجة التجمد قبل حصولك عليه. المثير للدهشة أن حل هذه المشكلة التي تبدو مستعصية في ذلك التوقيت كان هو الملح!
فعند إضافة الملح إلى الثلج، كان يقوم الملح بامتصاص الحرارة من البيئة المحيطة وبالتالي إنتاج شكل بدائي من التبريد. وهي الطريقة التي تجار الثلج يلجأون إليها في منتصف القرن السادس عشر، ففي عام (1558) كان يقوم الفيزيائي الإيطالي جيامباتيستا ديلا بورتا باستخدام الثلج المليء بالملح لتجميد النبيذ، حيث كان النبيذ يتجمد عند درجة حرارة أقل من الماء كما هو الحليب.
سر من أسرار الدولة!
وبالرغم علمنا متى ظهرت هذه التقنية في التبريد، إلا أنه لايزال من غير المعروف على وجه التحديد كيف استخدمت في صناعة الـ آيس كريم لأول مرة! والسبب في ذلك هو أن الجميع تعامل مع ابتكار الـ آيس كريم بوصفه سرا خطيرا يجب إخفاؤه عن الآخرين!
حيث يزعم البعض أن كاثرين دي ميديتشي أحضرت وصفة صناعة الـ آيس كريم معها من إيطاليا إلى فرنسا عندما تزوجت من هنري دوق أورليانز في عام 1533، بينما يقول البعض الآخر أن تشارلز الأول ملك إنجلترا منح أحد الطهاة في قصره راتبا مدى الحياة مقابل كتمانه لوصفة صناعة الـ آيس كريم المثلج بهذه التقنية، واعتباره سرا من أسرار الدولة! فيما يردد البعض قصة خيالية عن أن ماركو بولو أحضر وصفة الـ آيس كريم معه من الصين في العصور الوسطى.
وبالرغم من أن كل هذه مجرد قصص لا يمكن التأكد من صحتها، إلا أنه من الثابت أن الـ آيس كريم كما نعرفه اليوم ظهر بشكل أو بآخر في النصف الأول من القرن السادس عشر، وظلت وصفة صناعة الـ آيس كريم سرية عدة سنوات، ولم تنشر باللغة الإنجليزية حتى مطلع القرن الثامن عشر.
المدهش حقا، أن الوصفة كانت بدائية للغاية، بل ومثيرة للسخرية في بعض الأحيان، ما يجعلنا نندهش كيف اعتبرها البعض بمثابة سرا حربيا لا يجب أن يطلع عليه الأعداء! ففي وثيقة ترجع إلى عام 1718 تخص سيدة تدعى ماري إيليس، ذكرت وصفة الـ آيس كريم لأول مرة، والتي كانت تقول “ضع قليلا من الثلج في إناء التبريد -الذي يستخدم تقنية الملح لتوليد الثلج- وضع عليه أي نوع من الكريم الذي تحبه، سواء كان عاديا أو محلى، أو ضع قليلا من الفواكه، ثم اغلق الإناء وضعه في قبو حيث لا يصل ضوء الشمس، واتركه لمدة 4 ساعات، وسوف تجد الآكلة قد تجمدت وأصبحت جاهزة للتناول”!
بحلول عام 1768، نشر M. Emry أول كتاب يتضمن وصفات صناعة المثلجات، وكانت الوصفات التي ذكرها أكثر دقة ووضحا، كما كان دقيقا بشكل لافت في تحديد الوقت الذي يستسغرقه الحليب حتى يصبح مجمدا وصالح للتناول، كما اشتملت الوصفات على طرق تعبئة الثلج والملح، وكيف تحمي الـ آيس كريم النهائي من الاختلاط بالملح أو بأي من مكونات عملية التبريد.
بعد كتاب Emry شاعت طريقة صناعة الـ آيس كريم، وبدأ الناس يبتكرون أنواع أخرى بنكهات منوعة مضاف عليها قشدة وكاستر، بالإضافة إلى نكهات الكراميل والزنجيل والليمون والشوكولاته -التي ستصبح لاحقا أشهر أنواع المثلجات.
مثلجات الشعب
لسنوات عديدة افترض المؤرخون أن تناول الـ آيس كريم في سنواته الأولى كان حكرا على النخبة فقط، وليس من الصعب معرفة السبب، حيث أن وصفات صناعته كان يعرفها فقط من يخدمون في منازل الأرستقراطيين وقصور الأسر الملكية، وهناك العديد من الأدلة التي تدعم هذه الفرضية، فمثلا أقامت زوجة الرئيس الأمريكي جيمس ماديسون في عام 1813 حفلا لتقديم الـ آيس كريم ضمن فعاليات تنصيبه في واشنطن، ما يوضح كيف كان ينظر إلى تلك الآكلة الاستثنائية في ذلك الوقت.
إلا أن هناك بعض المؤرخين، الذين يرون أن المثلجات لم يكن حكرا على النخب فقط، خاصة في نابولي خلال القرن الثامن عشر، مشيرين إلى أنه بسبب نشاط تجارة الثلج في ذلك الوقت، كان من الممكن للفئات الفقيرة صنع وبيع الـ آيس كريم والاستمتاع بتناوله. فقد كان هناك الكثير من المتاجر والمقاهي التي تبيع الـ آيس كريم للجميع في نابولي، كما كان هناك باعة جائلين يبيعون الـ آيس كريم قليل الجودة في الشوارع! وهناك أدلة تشير إلى أن بعض الأسر المتوسطة كانت تصنعه في المنزل.
انفجار الـ آيس كريم
ظلت صناعة الـ آيس كريم تسير بوتيرة محدودة حتى عام 1843 عندما اخترت نانسي جونسون، وهي من سكان ولاية نيو جيرسي الأمريكية، جهازا لصناعة الـ آيس كريم ينتج نوعا جيدا من المثلجات له ملمس ناعم ومتماسك.
وفي عام 1926 أصبح من الممكن إنتاج الـ آيس كريم بكميات ضخمة عندما اخترع كلارنس فوجت ما يعرف اليوم باسم “الفريزر” الذي كان يسهل إنتاج عدة كيلو جرامات من المثلجات في المرة الواحدة، ليحدث انفجارا في صناعة الـ آيس كريم حو العالم، ما أدى إلى انخفاض الأسعار نتيجة زيادة المعروض من هذه السلعة، مما جعل الـ آيس كريم الجيد ذو الطعم الشهي متاحا للجميع في كل مكان.
ومع ظهور العديد من الشركات التي تخصصت في صناعة هذا النوع من المثلجات واشتهار بعض العلامات التجارية على مستوى عالمي، أدت المنافسة المتزايدة إلى توحيد المكونات الأساسية للـ آيس كريم على مستوى العالم، وفي نفس الوقت ابتكار نكهات مختلفة وممتعة أكثر من أي وقت مضى.
المصدر: موقع History Today