في عام 1961، وفي إحدى مدارس مركز منوف بمحافظة المنوفية، كان هناك طالب في الصف الأول الإعدادي يهوى جمع الطوابع، وكان له صديق يكبره بعامين، صادفه الطالب ذات يوم وهو يقرأ في ورقة باهتمام بالغ، وعندما سأله عما يقرأه؟ أخبره أنه خطاب جاء لوالده من أقارب لهم يعيشون في أوروبا.
لم يهتم طالب الإعدادي بالخطاب قدر اهتمامه بالطوابع التي كانت على الخطاب، لذا سأل صديقه أن يعطيه تلك الطوابع ليضيف إلى مجموعته طوابع أوروبية يصعب أن يحصل عليها طالب في مثل عمره يعيش بالريف المصري، وهكذا، اعتاد الطالب أن يقابل صديقه كلما جاءه خطاب من أوروبا، ليحصل على الأظرف وينزع عنها الطوابع.
بعد فترة ليست بالطويلة، توجه هذا الطالب ذات يوم إلى السينما برفقة صديقه، ليشاهدا فيلما لإسماعيل ياسين كان قد مر على إنتاجه نحو أربع سنوات، وأثناء تتر بداية الفيلم، أشار له صديقه فجأة إلى أسماء اثنين من الممثلين ظهرا على الشاشة، قائلا له: ألا تعرفهما؟ إنهما ميمو وجمال رمسيس.. أقاربنا الذين يرسلون إلينا الخطابات من إسبانيا!
النشر جزء من البحث
فور نشر الجزء الأول من هذا التحقيق، والذي حمل عنوان “ليلة اختفاء ميمو وجمال رمسيس.. البحث عن آل عفيفي” لم تتوقف ردود الأفعال والآراء عليه، كانت بعض هذه الردود مادحة للمجهود المبذول في البحث، بل وانشغل أصحابها بتخمين مصير ميمو وجمال رمسيس وأطلقوا عشرات الاحتمالات حول السبب وراء اختفائهما في مطلع الستينيات من القرن الماضي، إثر مغادرتهما لمصر وانقطاع أخبارهما.
البعض الآخر طالب بضرورة استكمال التحقيق، بل واقترح الكثيرون طرقا أخرى للبحث – بعضها واقعي وبعضها خيالي!- لمساعدتنا في الوصول إلى حقيقة ما حدث للأخوين رمسيس، منها مثلاً من اقترح أن نبحث وراء من عمل معهما من ممثلين وفنانين لا يزالون على قيد الحياة، ربما كانت لديهم إجابة ما، ومنهم من طالبنا بالتوجه إلى السفارة الأمريكية في القاهرة ومحاولة معرفة أي معلومات عنهما، بينما كانت أغرب النصائح هي الذهاب إلى خبير روحاني لعقد جلسة تحضير أرواح، واستحضار روحي جمال وميمو رمسيس لعلهما يخبراننا بالحقيقة!
البعض أيضاً انتقد نشرنا للجزء الأول من التحقيق، ورأى أنه كان من الأفضل تأجيل النشر لحين الوصول إلى نهاية واضحة ومعلومة أكيدة عن مصيرهما، حتى لا نترك القارئ في حيرة من أمره كما حدث، أو لا ننشره من الأساس طالما لم نصل إلى نتيجة قاطعة.
والحق، أننا طرحنا على أنفسنا كل هذه الآراء عندما وصلنا إلى نهاية الجزء الأول من التحقيق، وتساءلنا: هل نكتفي بما جمعناه من معلومات وننشرها كما هي؟ أم ننتظر ونواصل البحث؟ وبعد تفكير، رأينا أن قرار النشر قد يكون في حد ذاته، جزءًا من آلية البحث!
فاليأس لم يراودنا في الوصول إلى مصير ممثليْن شكل اختفاؤهما جدلا كبيرا داخل الوسط الفني وخارجه، بعدما قدما ثلاثة أفلام فقط، ونالا من الشهرة ما لم ينله آخرون عبر أدوار أكبر ومشاركات سينمائية أكثر، لذا رأينا أن نشر الجزء الأول قد يساعد في تحريك المياه الراكدة والوصول إلى معلومات أكثر وأدق عنهما، على أمل أن يصل التحقيق إلى من يعرف قصة ميمو وجمال رمسيس الحقيقية، ويقدم لنا معلومات موثوقة وموثقة عنهما، يمكن تقديمها في جزء ثانٍ ومكملٍ من هذا التحقيق، لذا ختمنا الجزء الأول بجملة “قد تكون للقصة بقية…” وهو ما حدث بالفعل!
استكمال خيوط البحث
بعد نشر الجزء الأول، لم نتوقف عن البحث، حيث واصلنا تتبع خيوط جديدة، إذ توجهنا إلى حي شبرا، وبالتحديد إلى شارع البعثة، الذي قال أكثر من مصدر إن أسرة ميمو وجمال أقامت فيه، إلا أن أهالي الشارع لم يتعرفوا على عائلة عفيفي، ولم يسمعوا أبدا أن شخصين باسم ميمو وجمال رمسيس عاشا في الشارع يوما، ولا يعرفونهما سوى عن طريق الأفلام التي قدماها في السينما أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كما أكد بعض السكان أنهم يقيمون في شارع البعثة منذ أكثر من 40 عاما، ولم يروهما قط! لكننا كنا نبحث فيما هو أقدم.
د. محمد عفيفي، أمين المجلس الأعلى للثقافة السابق، وأستاذ التاريخ الشهير، وصاحب كتاب “شبرا.. إسكندرية صغيرة في القاهرة” كان أيضا أحد المصادر التي لجأنا إليها، فهو مهتم فوق العادة بتاريخ شبرا، وكان أحد سكانها لسنوات طويلة، إضافة إلى أنه يحمل اسم عفيفي، وهو الاسم الحقيقي لأسرة ميمو وجمال كما كشفا خلال حوارهما مع مجلة الكواكب المنشور في أغسطس عام 1959، لذا تواصلنا معه ربما كان لديه معلومة أو خيط يمكن أن يساعدنا في رحلة البحث.
إلا أن الدكتور عفيفي أكد لنا أنه لا يعرف شيئا عن ميمو وجمال سوى من أفلامهما أيضا، كاشفا أنه ليس كل من يُدعى عفيفي ينحدر من عائلة واحدة بالاسم ذاته، وإنما من عائلات كثيرة من مدن وقرى الدلتا المختلفة، حيث اعتاد الأهالي تسمية أبنائهم على اسم “الشيخ العفيفي” تبركا به، وليس نسبة إلى جد واحد كما يعتقد البعض، وهو ما يجعل مسألة البحث بالاسم غير مجدية.
ولكن كان من اللافت، أن أبدى الدكتور عفيفي اندهاشه من سفر أسرة ميمو وجمال إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية – كما ذكر ميمو وجمال في حوار الكواكب – مشيرا إلى أن سفر أسرة مسلمة إلى أوروبا التي كانت تعاني من آثار الحرب المدمرة في هذا التوقيت أمر نادر الحدوث للغاية، وربما يكون وراءه سر ما!
“سناء عفيفي” أو “سناء الشامي”، هو اسم ابنة رتيبة، شقيقة ميمو وجمال رمسيس، والتي صادفنا اسمها في بعض وثائق السفر الخاصة بالعائلة أثناء دخولها وخروجها من أمريكا في الخمسينيات، ونظرا لأن سناء كانت لا تزال رضيعة في هذا التوقيت، فقد كان من المرجح جدا أن تكون هي الوحيدة التي لا تزال على قيد الحياة، لذا أفردنا لها مجهودا خاصا في البحث، وبحثنا باسمها بعدة طرق في مختلف المصادر التي صادفتنا، إلا أن النتيجة كانت دائما لا شيء.
وفي أثناء المعاناة من عدم العثور على معلومات جديدة، وقبل أن يتسرب إلينا الإحباط، وفي الوقت الذي كنا نتابع فيه ردود الفعل على نشر الجزء الأول، جاءتنا رسالة مفاجئة، تخبرنا بكل بساطة أن ميمو وجمال لم يهاجرا إلى الولايات المتحدة، بل هاجرا إلى أوروبا وبالتحديد إسبانيا! فهل كنا نبحث طوال هذا الوقت في المكان الخاطئ؟!
عائلة مرزبة في منوف
لأن المجهول في قصة ميمو وجمال رمسيس أكثر من المعلوم بكثير، كانت بداية خيوط البحث الجديدة مع حساب مجهول أيضا على موقع “تويتر” – يحمل اسما مستعارا – حيث أرسل إلينا عدة صور “Print” تتضمن تعليقات لأحد الأشخاص على فيديو منشور بالإنترنت يعرض معلومات شائعة بالخطأ عن ميمو وجمال رمسيس، والتي اتضح لنا في الجزء الأول عدم صحتها، حيث ينفي صاحب التعليقات ما جاء في الفيديو، ناشرا معلومات كنا نصادفها للمرة الأولى!
صاحب التعليقات قال إنه يرتبط بصلة قرابة لميمو وجمال رمسيس، وإن اسميهما الحقيقيين هما “جمال محمد عفيفي مرزبة” و”محمد محمد عفيفي مرزبة”، وأن لهما شقيقين: رتيبة وفوزي – اسمه الحقيقي شحاته -، وأن والدهما من مركز منوف بمحافظة المنوفية، ووالدتهما من عرب سيناء، وأن صلة قرابته بهما هي أن جدته كانت ابنة عم أبيهم.
القريب المزعوم أضاف في تعليقاته أن الأشقاء الأربعة كانوا يعملون جميعا في السيرك، حيث بدأوا نشاطهم كلاعبي سيرك مصاحب لفرقة رمسيس المسرحية التي أنشأها عميد المسرح المصري الفنان يوسف وهبى، وكانوا يقدمون عروضهم الأكروباتية بين فصول المسرحيات، قبل أن يستقلوا بالعمل وينشئوا سيرك خاصا بهم أطلقوا عليه اسم “سيرك رمسيس” تيمنا بعملهم مع يوسف وهبى، ولاحقا، قرروا مغادرة مصر والهجرة إلى إسبانيا حيث أقاموا هناك جميعا!
المعلومات كانت مفاجئة بنسبة كبيرة، فالحديث عن أن ميمو وجمال كانا مجرد أفراد في فرقة سيرك عائلية أمر لم نصادفه في أي من المصادر التي مرت علينا، كما أن ميمو وجمال لم يذكراه على الإطلاق أو يشيرا إليه في حوارهما الوحيد الذي عثرنا عليه مع الصحافة المصرية، والذي أجرياه مع مجلة الكواكب، إذ كان حديثهما منصبا فقط على نشاطهما السينمائي والتمثيلي، ورغم أننا صادفنا وثيقة سفر لهما مع الأسرة، فيها إشارة إلى أن وظائف أغلبهم هي “الأكروبات”، فإننا لم نعتقد حينها بأن الأمر حقيقي بشكل كامل، ربما كانت مجرد وظائف وهمية وضعاها في خانة الوظيفة بوثيقة السفر لإنهاء الإجراءات، خاصة أن وظيفة “الأكروبات” كانت مكتوبة أيضا أمام اسم أبيهما وشقيقتهما رتيبة!
أثناء تدقيق المعلومات السابقة، وقبل أن نسارع بالاطمئنان إليها، وجدنا من بين الصور التي أُرسلت إلينا، ردودا جاءت على تعليقات الشخص الذي يدعي أنه قريبهم، حيث أنكر أحد الأشخاص أن يكون جمال رمسيس قد عاش في إسبانيا، مشيرا إلى أنه كان يقيم في هولندا حتى وفاته! ليرد عليه القريب المزعوم بقوله “نعم، كان يعيش في أمستردام بهولندا وكان يملك محلا لبيع الكاميرات، وبقي في هولندا حتى وفاته”!
ما هذه الحيرة؟! الرجل يقول إن جمال هاجر إلى إسبانيا، وبعدها بأسطر قليلة يتراجع ويشير إلى أنه كان يقيم في هولندا وهناك كانت نهايته؟ فأي الروايتين أصح؟ هذا التضارب أجبرنا على عدم الوثوق في معلومة “سيرك رمسيس” العائلي أيضا.
البحث عن قريب مجهول
المعلومات التي سردها الشخص الذي ادعى أنه مرتبط بصلة قرابة لميمو وجمال رمسيس، رغم تضاربها فإنها أجبرتنا على البحث عنه والتواصل معه، لمعرفة حقيقة ما كتب وحقيقة علاقته بميمو وجمال، فبدأنا البحث باسمه على موقع “فيسبوك”، وحصرنا البحث في عدة أشخاص يحملون نفس الاسم وجميعهم من مدينة منوف، وبعد عملية تصفية وترجيح، حصلنا على أسماء ثلاثة أشخاص اعتقدنا أن أحدهم هو صاحب التعليقات السابقة، فأرسلنا إليهم عدة رسائل، وجلسنا ننتظر الرد.
بعد 24 ساعة، جاءنا الرد من أحدهم بالفعل، ورغم نفيه أن يكون هو صاحب التعليق، فإنه أكد صحة ما ورد فيه من معلومات، مشيرا إلى أنه من نفس عائلة صاحب التعليق، وأن ميمو وجمال رمسيس أقاربهم بالفعل!
الشاب السابق أخبرنا بأنه لا يعرف الكثير عن قصة ميمو وجمال رمسيس، ولكن كل ما يعرفه أنهما من منوف، وأن والدهما عمل لفترة نجارا في فرق المسارح التي كانت تجوب الأقاليم، ولكن أهم ما قاله، أن والد ميمو وجمال وأثناء عمله مع هذه الفرق، حرص على تدريب أبنائه الأربعة على أيدي العاملين في هذه الفرق ليتعلموا منهم فنون “الأكروبات”، قبل أن يترك والدهم العمل مع هذه الفرق ويشكل مع أبنائه سيرك خاصا بهم حمل اسم “سيرك رمسيس”!
سألنا الشاب إن كان يعرف شيئا عن السبب وراء سفر ميمو وجمال بشكل مفاجئ في مطلع الستينيات، فأكد أنه لا يعرف الكثير عن قصتهما، ولأنه كان حريصا على تزويدنا بأكبر قدر من المعلومات، أخبرنا بأنه سيطلب من والده أن يتواصل معنا، لأنه بالتأكيد لديه معلومات أكثر.
جلسنا ننتظر اتصالا من والده، فطال الانتظار! واستثمارا للوقت، قررنا مواصلة البحث. كانت خطتنا هي عدم الجلوس وانتظار من يبحث عنا ليرسل إلينا معلومة جديدة، بل أن نبحث نحن عمن يمتلك هذه المعلومة، لذا بدأنا مطالعة أكبر قدر من التعليقات التي جاءت على رابط الجزء الأول من التحقيق والمنشورة على الشبكات الاجتماعية، ربما صادفنا من لديه معلومات أخرى، حتى عثرنا على “جامع الطوابع”.
صديق قديم من منوف
على أحد روابط الجزء الأول المنشور على “فيسبوك”، عثرنا على شخص – فضل عدم ذكر اسمه – علق قائلا بأن التحقيق ينقصه الكثير من المعلومات التي يعرفها هو، مرددا تفاصيل قريبة للغاية من التفاصيل التي حصلنا عليها من المصادر السابقة، ومعربا عن استعداده للحديث عما يعرفه عن ميمو وجمال رمسيس حتى تُنشر الحقيقة كاملة على الوجه الصحيح.
سريعا، تواصلنا معه عبر “فيسبوك”، ثم حصلنا على رقم هاتفه، وأجرينا معه اتصالا طويلا، قدم خلاله معلومات لافتة، زادت من قناعتنا بصحة كثير منها، خصوصا المعلومات التي بدأت تتكشف لنا في مرحلة البحث الثانية، وسرد لنا قصة طالب الإعدادي الذي يهوى جمع الطوابع، فقد كان هو هذا الطالب.
“جامع الطوابع” أخبرنا بأن صديقه الذي كان يتلقى الخطابات من إسبانيا، هو من عائلة ميمو وجمال رمسيس، حيث كانت جدته هي ابنة عم والد ميمو وجمال، وجميعهم من مدينة منوف، وينتسبون إلى عائلة تدعى “مرزبة”، كل أصولها مسلمة وليست يهودية ولا مسيحية كما ادعت بعض المواقع على الإنترنت.
الرجل يقول: “سافروا من منوف إلى القاهرة وعاشوا في شبرا، أما عن أمهم فكانت من البدو أو العرب الذين كانوا يجوبون قرى الدلتا ليشاركوا في الموالد، ومن هنا تعرف عليها محمد عفيفي الأب وتزوجها. أتذكر أنهم كانوا يعملون في سيرك الحلو في وقت من الأوقات” – سيرك الحلو تأسس عام 1889، ربما كان من الطبيعي أن يكونوا قد عملوا فيه فعلاً -.
“جامع الطوابع” أوضح لنا أن شقيقتهما، رتيبة، كانت كما يُقال هذه الأيام “روشة” وتهوى السفر، وكانت ذات شخصية قوية، وجميع أفراد الأسرة يستمعون إليها وينفذون توجيهاتها، حتى تزوجت من محمد الشامي (المذكور اسمه في وثائق السفر خلال رحلاتهم المتعددة إلى أمريكا في الخمسينيات)، ولكنه طلقها بعد أن أنجب منها ابنتين، وتزوج من أخت الممثلة ملك الجمل – الممثلة الشهيرة بلقب “خالتي بامبا” – حيث كان الشامي من كبار التجار، وله عائلة لازال بعضها يقيم في منوف حتى الآن.
سألنا المصدر السابق عن السبب وراء سفرهما، ولماذا كان مفاجئا كما أوحت إلينا الكثير من المصادر؟ وهل كان ذلك راجعا لأزمات سياسية أو ما شابه؟ فكان جوابه هو النفي، مرجحا أن تكون شقيقتهما رتيبة هي صاحبة اقتراح السفر إلى خارج مصر وتقديم عروضهم في أوروبا، وتابع: “كان لرتيبة شقة كبيرة وفخمة في شارع شريف، وكانت بها صالة كبيرة لرقص الباليه، باعتها بنحو ألف جنيه، ونزلت في غرفة بفندق كونتننتال – الواقع بميدان الأوبرا القديم – قبل سفرها نهائيا إلى إسبانيا”.
كلام “جامع الطوابع” لم يكن واضحا بشكل كامل لنا، هل كان يتحدث عن سفرهما الأول بعد الحرب العالمية الثانية؟ أم سفرهما الثاني في بداية الستينيات عقب أفلامهما الثلاثة؟ إلا أنه أشار بأنه يقصد سفرهما الثاني، ما زاد من ضبابية الأمر.
المصدر اختتم حديثه بقوله إن أسرة ميمو وجمال رمسيس اعتادت إرسال الخطابات بعد هجرتها إلى إسبانيا، ولو كان هناك أي أزمات سياسية لما أرسلوا أي خطابات ولا كشفوا عن مكانهم، كما أن رتيبة وبنتيها اعتدن زيارة مصر بين الحين والآخر حتى وفاة رتيبة، وهو ما يؤكد أن أوضاع الأسرة كانت طبيعية، وكانوا يخرجون ويدخلون مصر باستمرار، كاشفا أن اسمي بنتي رتيبة هما: الكبرى سناء – والتي عثرنا على اسمها في وثائق السفر – والصغرى مها، ولكنهما تستخدمان حاليا أسماء أوربية أكثر بسبب طبيعة عيشتهما هناك، حيث تُعرف سناء حاليا باسم “سونيا”، ومها باسم “سوزانا”!
كلام “جامع الطوابع” ينفي أن يكون خروجهما مفاجئا أو لسبب سياسي أو لأي أزمة من الأساس، ويؤكد أن خروج الأسرة كان هادئا وطبيعيا، بل ومعروفا للكثيرين، ولكن عندما وجهنا له سؤالنا الأخير: هل زار ميمو وجمال مصر بعد خروجهما في مطلع الستينيات من القرن الماضي؟ أجابنا بقوله “على الإطلاق، لم يأت ميمو وجمال لزيارة مصر أبدا بعد هجرتهما”!
صورة بالأبيض والأسود
تصريحات “جامع الطوابع” أوضحت لنا بعض النقاط التي كانت غامضة بالنسبة إلينا في المرحلة الأولى من البحث. رغم كل محاولات بحثنا عن “سناء” على أمل أن يكون لديها معلومات أكثر عن ميمو وجمال، ولكننا لم نصل لشيء حينها، والسبب في ذلك هو أنها كانت تستخدم اسما مختلفا وهو “سونيا”، ولكن تصريحاته لم تنف شكوكنا حول الغموض وراء قصة خروجهما من مصر وسببها، خاصة أنه أكد بأن ميمو وجمال لم يزورا مصر على الإطلاق بعد هجرتهما لإسبانيا، ما يوحي بأن الأمر لم يكن طبيعيا بشكل كامل كما حاول أن يظهر لنا.
في هذا التوقيت، كنا بحاجة إلى شخص يعرف معلومات أكثر من “جامع الطوابع”، شخص أقرب إلى ميمو وجمال رمسيس، فطالبناه بأن يرتب لنا لقاءً أو مكالمة هاتفية مع صديقه الذي كان يتلقى الخطابات من إسبانيا، بحكم كونه أحد أقارب ميمو وجمال، فبالتأكيد لديه معلومات أكثر وأدق، فوعدنا بأن يتصل به أولا ويستأذنه في هذا الأمر.
أثناء انتظارنا لعودة “جامع الطوابع”، عدنا للشاب الذي كنا ننتظر اتصال والده، وأخبرناه بأن أحدا لم يتواصل معنا حتى الآن، فوعدنا مجددا بالتواصل مع والده وحثه على الإسراع في الاتصال بنا، مشيرا إلى أنه يقيم خارج مصر وهو ما يجعل أمر التواصل صعبا بعض الشيء، وحتى يثبت لنا أنه حريص على مساعدتنا، أرسل إلينا صورة واحدة، كانت مجرد صورة بالأبيض والأسود، ولكنها كانت لنا بمثابة كنز لم نكن نتوقعه، ودليل فتح أمامنا الطريق إلى معرفة القصة الحقيقية وراء ميمو وجمال رمسيس اللذين حيرانا معهما لأشهر متواصلة!
عن السيرك وشقة شارع شريف!
حتى هذا التوقيت من مرحلة البحث الثانية، لم نكن قد حصلنا على أي دليل أو وثيقة يمكن أن تقدم لنا معلومة موثوقة عن ميمو وجمال، كان كل ما حصلنا عليه مجرد روايات من عدة مصادر، حتى مع تشابهها، ولكنها تظل روايات لم نجد شيئا يدعمها، ولأننا اعتدنا على مصادفة الكثير من المعلومات المتضاربة وغير الدقيقة بشأن ميمو وجمال منذ بداية البحث، لذا كان لزاما علينا أن نشك في كل ما يصادفنا ولا نطمئن لشيء بشكل نهائي إلا بدليل قاطع.
لذا حاولنا العثور على أدلة أقوى تؤكد أو تنفي ما صادفناه من معلومات، من ذلك أن حاولنا البحث بالأسماء الأوروبية لابنتي رتيبة: “سونيا” و”سوزانا”، ورغم كتابتنا للأسماء بأكثر من طريقة على محركات البحث، مرة مقترنة باسم عفيفي، ومرة باسم الشامي، فإن النتائج التي حصلنا عليها لم تقدنا إلى شيء مفيد.
معلومة السيرك العائلي التي صادفناها أكثر من مرة في المرحلة الثانية أيضا، كان لابد لنا من تتبعها، حيث بدأنا البحث في الأرشيفات المتاحة على الإنترنت وفي الصحف، عن سيرك مصري يحمل هذا الاسم في أربعينيات أو خمسينيات القرن الماضي، ولكننا لم نصادف سوى فرقة رمسيس الخاصة بيوسف وهبى، ولم يظهر لنا في أي من المصادر أي سيرك مصري يحمل هذا الاسم! حاولنا التواصل مع بعض العاملين في أكثر من سيرك حالي في مصر، ولكن أحدا لم يسمع عن عائلة كانت تمتلك سيرك باسم “سيرك رمسيس” في هذا التوقيت.
فكرنا في البحث عن شقة رتيبة في شارع شريف، الذي قال “جامع الطوابع” إن رتيبة كانت تمتلكها قبل سفرها إلى إسبانيا، ولكن الأمر كان غير مجد على الإطلاق، فالشارع طويل للغاية ومبانيه العتيقة تردد عليها الكثير من العائلات في أزمنة مختلفة، والعثور على شخص يعرف شيئا عن سيدة كانت تقطن إحدى العمارات غير المحددة وتحمل اسم رتيبة في الستينينات، هو أمر أشبه بالمستحيل.
وعندما كنا لانزال نعاني من الحيرة والتخبط وتضارب المعلومات، أهدى إلينا القدر الصورة التالية التي غيرت كل شيء!
The Four Ramses
فقد أرسل إلينا الشاب الذي كنا ننتظر مكالمة والده – وبالمناسبة لم نتلق المكالمة حتى نشر التحقيق-، صورة لم نشاهدها من قبل لجمال رمسيس وأشقائه ميمو ورتيبة وفوزي، وهم يكوّنون معا حركة أكروباتية، لا يستطيع القيام بها إلا لاعبو سيرك حقيقيون! حيث وقفت رتيبة في المنتصف – التي كنا نشاهد صورة لها للمرة الأولى – تحمل ميمو بذراعها الأيمن وجمال بالأيسر بينما وقف على أكتفاها شقيقها فوزي، مظهرة قوة ولياقة استثنائية! وفي أسفل الصورة كتبت بخط اليد جملة “The Four Ramses” أو “الرباعي رمسيس”.
سريعا تتبعنا هذا الخيط وبحثنا باسم “The Four Ramses” على محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى توصلنا إلى نتيجة واحدة فقط في “فيسبوك” عبر صفحة ناطقة بالإنجليزية تهتم بالأكروبات وأساليب الحركات الأكروباتية، حيث نشرت الصفحة في يناير 2017 صورة أخرى للرباعي رمسيس، وهم يؤدون الحركة نفسها ولكن تم تصويرها من زاوية مختلفة، ومرفق مع الصورة نص يقول “ميزان كاروسيل للرباعي رمسيس، كنموذج للسيرك العائلي. هذه الصورة من بلاكبول، إنجلترا 1954”.
الصورة المدهشة، كانت أول دليل موثق يثبت صحة القول بأن ميمو وجمال رمسيس كانا عضوين في فرقة سيرك عائلي تحمل اسم “رمسيس”، كما يرجح من تاريخ الصورة – عام 1954 – أن بداية نشاطهما في الخارج كان يعتمد على تقديم عروض السيرك وليس التمثيل، وهو ما يجعلنا نعيد النظر في كل المعلومات التي جمعناها من المصادر التي ترتبط جميعها بمنوف، والتي أجمعت على أن ميمو وجمال كانا لاعبي سيرك في الأصل، وليسا ممثلين.
ولكن مفاجآت الصورة لم تتوقف عند هذه المرحلة، فقد كتبت الصفحة الناشرة للصورة تعليقا عليها، تسأل عن أي شخص يمتلك معلومات أكثر عن هؤلاء الرباعي، ليأتيَ الجواب واضحا من أحد الحسابات الذي رد بالإنجليزية قائلا: “إذا كنتم ترغبون في الحصول على معلومات عنهم؛ لا تترددوا في التواصل معي؛ فهم عائلتي”، لقد كان الحساب يحمل اسم السيدة “سوزانا الشامي”!
قريب من الدرجة الثانية يظهر أخيراً!
في هذه اللحظة، شعرنا بأننا على بعد خطوات من نهاية رحلة البحث الشاقة والطويلة والمرهقة، وأن الخبر اليقين ينتظرنا أو على مسافة أمتار قليلة منا.
سريعا، بدأنا في التواصل مع سوزانا الشامي، أرسلنا إليها عدة رسائل عبر “فيسبوك” ولكننا لم نتلق جوابا في حينه، بحثنا عن باقي حساباتها على الشبكات الاجتماعية باستخدام نفس اسمها على “فيسبوك”، وراسلناها على كل منها، ولكنها لم تستقبل أيا من رسائلنا في البداية.
من خلال تلك الحسابات، عرفنا أنها تعيش بالفعل في إسبانيا، وتحديدا في مدينة مايوركا، لذا تواصلنا مع زميلة تعيش في إنجلترا، وسألناها إن كان ثمة طريقة لمعرفة رقم هاتف شخص يعيش في دولة أوروبية، ولا نملك سوى اسمه الثلاثي فقط؟
طلبت منا الزميلة، الاسم، ووعدتنا بالمساعدة في البحث عنه، ولم يطل انتظارنا، فبعد دقائق معدودة، عادت إلينا وبحوزتها رقم هاتف السيدة “سوزانا الشامي”! في البداية شككنا في مدى صحة الرقم بسبب السرعة التي حصلنا بها عليه، ولكن فور وضع الرقم على تطبيق “واتساب” وجدنا صورة لصاحبته، كانت هي ذاتها السيدة سوزانا، التي عرفناها من حساباتها بالشبكات الاجتماعية.
سريعا أرسلنا لها عدة رسائل على تطبيق “واتساب”، عرفنا فيها بأنفسنا وطلبنا منها المساعدة في التعرف على القصة الحقيقية لميمو وجمال رمسيس، انتظرنا لدقائق حتى استقبل حسابها الرسائل، ثم انتظرنا لساعتين قبل أن تشاهد الرسائل، ورغم ذلك تأخر الرد، ومضينا عدة ساعات في انتظار أي جواب منها، حتى كاد الليل ينقضي ونحن منتظرين أي ردة فعل دون جدوى! فكرنا في أن نهاتفها، ولكن قرارنا كان الانتظار حتى صباح اليوم التالي.
وفي الصباح، جاءنا أخيرا الرد، وأخبرتنا السيدة سوزانا بأنها على استعداد لمساعدتنا لتقديم كل المعلومات التي نريد معرفتها عن ميمو وجمال، لنبدأ في وضع آخر أجزاء هذا اللغز الذي يُدعى “ميمو وجمال رمسيس”، لتروي لنا القصة الكاملة التي تُنشر لأول مرة عنهما، والتي ستغير كل المنشور عنهما على الإنترنت، وربما في كثير من الكتب التي اهتمت بتاريخ الفن في مصر!
القصة غير المروية..
محمود عفيفي، رجل من أبناء مدينة منوف بمحافظة المنوفية، كان يعمل في مجال الفرق المسرحية والاستعراضية، قرر في أربعينيات القرن الماضي السفر بأسرته، زوجته وأبنائه: رتيبة وفوزي وجمال ومحمد “ميمي” (بالترتيب العمري)، إلى القاهرة واستقروا في حي شبرا، حيث شكل بهم عفيفي فرقة سيرك عائلي متجول بعدما تدربوا على يد مدرب ياباني، وأطلقوا على هذه الفرقة اسم “سيرك رمسيس”.
بعد فترة من النجاح المحدود في مصر، قرر عفيفي اصطحاب فرقته والسفر بها إلى الخارج في نهاية الأربعينيات، وبالتحديد إلى أوروبا على أمل أن يجدوا النجاح هناك، وبالفعل، سرعان ما بدأوا في تحقيق شهرة لافتة، خاصة وأن اسم الفرقة وأزياءها المصرية الفرعونية، كانت عامل جذب كبير، بالإضافة إلى مهارة أفراد الفرقة “الرباعي رمسيس” الذين كانوا لا يزالون في عمر المراهقة وأوائل الشباب.
هذا النجاح ساعدهم على أن يجوبوا مختلف البلدان الأوروبية، ويقدموا عروضهم في أكبر المسارح فيها، مثل “مولان روج” و”الليسية” في باريس التي كانت محطة انطلاقهم ومستقرهم، قبل أن يتوجهوا منها إلى أوروبا، ويقدموا عروضهم في كبريات المسارح الأمريكية في نيويورك ولاس فيجاس وغيرها، وباتت أخبار عروضهم تظهر في الصحف بمختلف اللغات، وكتبت عنهم المقالات، وسط إقبال كبير من الجماهير ونجاح منقطع النظير.
كانت رتيبة، الابنة الكبرى لمحمود عفيفي، هي العنصر الرئيسي في الفرقة وبطلة عروضها والنجمة التي تأتي الجماهير لمشاهدتها في المقام الأول، وكانت الأقدر على القيام بالحركات الصعبة. في مطلع الخمسينيات، تزوجت رتيبة من تاجر مصري يُدعى “محمد الشامي”، وأنجبت منه ابنتها الأولى “سناء”، وبالرغم من ذلك، ظلت رتيبة تقود الفرقة وتقدم معها العروض في أوروبا وأمريكا.
في عام 1957 خاض الثنائي جمال وميمو تجربة سينمائية في فيلم فرنسي حمل اسم “ليس هناك سطو على ريكاردو”، وفي توقيت قريب من هذا التاريخ توفي والدهما محمود عفيفي مؤسس الفرقة ومديرها، ثم حملت رتيبة في ابنتها الثانية “مها”، هنا رأى زوجها محمد الشامي ضرورة توقف رتيبة عن المشاركة في العروض المسرحية والعودة إلى مصر في نهاية عام 1958.
كان جمال وميمي وفوزي مرتبطين برتيبة، ويرون أن الفرقة لا يمكن لها أن تستمر دونها، لذا عادوا معها إلى مصر بناء على رغبة زوجها، ليكتبوا نهاية فرقة سيرك “الرباعي رمسيس”.
تجربة ميمي وجمال السينمائية في فرنسا، شجعتهما على التحول إلى السينما بعد تفكك الفرقة، لينجحا في المشاركة بثلاثة أفلام مصرية خلال عامين، هي “إسماعيل ياسين بوليس سري” و”إشاعة حب” و”ملاك وشيطان”، ولكن طموح جمال وميمو لم يكن يقنع بتلك الأدوار السينمائية البسيطة، بعدما اعتادا على النجومية في المسارح العالمية، ما جعلهما محط أنظار الجماهير التي كانت تأتي لمشاهدة عروضهم المبهرة في مختلف أنحاء العالم، لذا قررا فجأة السفر إلى بلجيكا!
كان لدى جمال وميمي في هذه الفترة ثروة كبيرة جمعاها من نجاحهما في الخارج، وأثناء وجودهما في أوروبا تعرفا على مخرج بلجيكي اتفقا معه أن يقوم بإخراج فيلم من إنتاجهما في نهاية الخمسينيات، ولكن سفرهما إلى مصر بصحبة شقيقتهما الكبرى أوقف المشروع، وبعد تجاربهما القليلة في مصر، رأيا أن يعودا إلى بلجيكا عام 1960 لاستكمال مشروعهما السينمائي الذي وضعا عليه آمالا كبيرة، على أمل أن يعودا مجددا إلى مصر بعدما يصبحان نجمين كبيرين في عالم السينما، ليغادرا مصر وهما غير مدركين لحجم التأثير الذي أحدثاه في السينما والآراء التي كانت تتنبأ لهما بمستقبل كبير!
ولكن القدر كان يخبئ لهما ما لم يتوقعاه، فبعدما أنفقا مبالغ طائلة على إنتاج الفيلم البلجيكي، استهلكت أكثر من نصف ممتلكاتهما، فشل الفيلم فشلا ذريعا، ولم يحقق أي عائد، وسريعا ما تم رفعه من دور العرض ونسيه الجميع، حتى إن الفيلم نفسه صار مفقودا حاليا.
خسارة الفيلم شكلت صدمة لهما، لذا قررا ألا يسارعا بالعودة إلى مصر، وقررا البقاء في أوروبا لفترة ربما استطاعا تعويض ما خسراه، خلال تلك الفترة، ارتبط ميمي بفتاة دنماركية أنجب منها ولدا وبنتا، كما تزوج جمال من فتاة هولندية ولكن لم يرزق منها بأبناء، ونتيجة تكوينهما عائلتين لهما في أوروبا، بات من الصعب عودتهما للاستقرار في مصر، لذا قررا أن يقيما مشروعا لهما بمشاركة أخيهما فوزي، مقره في إسبانيا.
ففي النصف الثاني من الستينيات، افتتح ميمي وجمال وفوزي رمسيس ملهى حمل اسم “شهرزاد”، كان يقدم عروضا فنية واستعراضات وحفلات غنائية، وكان مخصصا للزبائن الأثرياء “هاي كلاس”، وسريعا حقق هذا الملهى شهرة جيدة في مدينة مايوركا، خاصة أن جمال وميمي كانا يستقدمان إليه كبار الفنانيين والمطربين من مختلف بلدان العالم، الذين تعرفوا عليهم أثناء جولاتهم الفنية، خاصة نجوم أمريكا الذين عرفوهم في لاس فيجاس.
ولكن، ولسوء حظهم للمرة الثانية، بدأ نجم هذا الملهى يخفت تدريجيا وبدأ الإقبال عليه ينخفض مع مرور الوقت، بعدما أنفقا عليه مبالغ طائلة أيضا، والسبب في ذلك أن أوروبا كانت تشهد في هذا التوقيت انتشار ظاهرة “الديسكو” الذي كان بالنسبة للشباب أحدث صيحة في عالم الترفيه، لذا بدأ جمهور الملاهي ينصرف عنها تدريجيا ويتجه إلى تلك الصالات ذات الأضواء المبهرة.
خلال فترة الستينيات، كان جمال وميمي وفوزي، يأتون إلى زيارة مصر بين الحين والآخر، خاصة أن والدتهم كانت تقيم معهم في أوروبا، وكانت تحرص على زيارة ابنتها رتيبة، ولكن في العام 1971، قررت رتيبة وزوجها وبناتها الذهاب إلى أوروبا لزيارة والدتها وأشقائها، كانوا يخططون في البداية أن تكون رحلتهم مجرد زيارة يعودون بعدها إلى مصر، ولكن عودة رتيبة إلى أوروبا، ذكرتها بمجدها الفني وكيف تركت كل هذا وعادت إلى مصر التي لا يعرف أحد فيها قدرها ولا شهرتها.
لذا، وتحت تأثير من والدتها، طلبت رتيبة من زوجها أن يقيما في إسبانيا مع أسرتها بشكل دائم، ولكن محمد الشامي رفض، وأصر على العودة إلى مصر التي كانت فيها تجارته وأعماله، وكان يرى أنه لا مستقبل له في أوروبا، وأمام إصرار رتيبة على البقاء في إسبانيا، خيرها بين العودة معه إلى مصر أو الانفصال والبقاء في إسبانيا، فاختارت رتيبة الانفصال، ليعود الشامي وحده إلى مصر، بينما بقيت رتيبة وبناتها في مايوركا.
اجتماع الأسرة كلها معا واستقرارها نهائيا في إسبانيا، جعل زيارات ميمي وجمال إلى مصر تقل للغاية، فلم يعد هناك حاجة ملحة لزيارتها، ولكن كانا يأتيان كل عدة أعوام لزيارة أقاربهما في منوف لأسبوع أو أقل ثم العودة مجددا إلى أوروبا.
في السبعينيات، كان ميمي قد انفصل عن زوجته الدنماركية، وارتبط بأخرى من هولندا، كانت تقيم معه في إسبانيا وأنجب منها أيضا ولدا وبنتا، في هذه الفترة، فكر ميمي مع أشقائه في إجراء بعض التعديلات على ملهى “شهرزاد” بهدف إحياء الإقبال عليه، فأنفقوا عليه مجددا، وغيروا اسمه إلى “كليوباترا”، ولكن الإقبال ظل محدودا وفي تناقص، ليقرروا في نهاية الأمر إغلاق مشروعهم بعد خسارة معظم أموالهم.
ورغم من أن ميمي رمسيس كان يتمتع بجسم رياضي ولياقة بدنية عالية كونه في الأصل لاعب أكروبات محترف، فإنه كان يعاني من مرض “حساسية الصدر”، ازدادت آلامها مع الوقت، وبدأت النوبات تشتد عليه، وفي إحدى تلك النوبات، لفظ ميمي أنفاسه الأخيرة عام 1979 أثناء إقامته في مايوركا بإسبانيا، وهو في أوائل الأربعينيات من العمر.
بعد وفاة ميمي وإغلاق الملهى، ترك جمال إسبانيا وقرر الإقامة في هولندا مع زوجته، وافتتح لنفسه مرسما يبيع فيه لوحاته وآلات تصوير، حيث كان الفن التشكيلي هو هوايته الثانية بعد فنون الأداء والتمثيل، وظل في هولندا إلى أن تقدم في العمر، حيث توفي في أحد مستشفيات أمستردام عام 2002، ليكتب السطر الأخير في قصة أشهر ثنائي غامض في تاريخ السينما المصرية، ميمو وجمال رمسيس.
كانت تلك هي القصة التي روتها لنا سوزانا، بالأسماء الحقيقية التي كانت تتداول فيما بينهم كعائلة، فالأب ليس محمد، بل محمود، ومحمد هو ميمي، ولكنه ميمو على تترات الأفلام المصرية الثلاثة فقط.
ميمو وجمال.. اللذان لم نكن نتوقعهما!
القصة الحقيقية التي بحثنا عنها طويلا، فسرت لنا كثيرا من الأمور بعدما سمعناها من الشاهد العيان الوحيد الذي قابلناه خلال رحلة البحث، وهو السيدة سوزانا الشامي، ابنة شقيقة ميمو وجمال.
لقد كان ميمو وجمال صادقين في أغلب ما قالاه في حوار “الكواكب”، لقد كانا بالفعل يتمتعان بشهرة كبيرة في أوروبا وأمريكا، وكان لهما صداقات كثيرة مع نجوم السينما العالمية، ربما لم يكن سبب هذه الصداقات عملهما في السينما كما حاولا المبالغة أو ربما كما بالغ الصحفي كاتب الحوار نفسه، ولكن المحصلة واحدة في النهاية، كما أنهما عملا على الكثير من مسارح أوروبا الشهيرة، ليس كممثلين، ولكن كأبطال سيرك كان من الأشهر حينها.
ميمو وجمال شاركا في أفلام أوروبية فعلا، ليس فقط الفيلم الفرنسي “ليس هناك سطو على ريكاردو”، وربما كانت الأفلام التي ذكراها في حوارهما حقيقية أيضا، ولكن لم يكن حظها بأفضل من حظ الفيلم البلجيكي الذي أنتجاه، لذا اختفت ونسيها الجميع، وربما ما قالاه كان مجرد وعود يتوقعان تحقيقها في تلك الفترة.
ميمو وجمال لم يغادرا مصر بشكل مفاجئ، ولم يهربا لأي سبب، وإنما غادرا بحثا عن مجد سينمائي لم ينجحا في تحقيقه، ورغم ذلك كانا يزوران مصر بين الحين والآخر ويتبادلان الخطابات مع عائلتهما في منوف، ولكن غيابهما الطويل، فتح الباب لكثير من التكهنات التي تحولت مع مرور الزمن إلى حقائق لدى البعض.
جمال ربما لم يسمع أبدا عن أن البعض يربط بينه وبين العميل المصري “رفعت الجمال” – رأفت الهجان – بل ربما أنه لم يسمع برفعت الجمال من الأصل، حيث أكدت السيدة سوزانا أنها لم تسمع هذه القصة من أسرتها على الإطلاق ولم تعرف أبدا بأمر رفعت الجمال.
ميمو وجمال غادرا مصر وهما غير مدركين حجم التأثير الذي تركاه خلفهما بأدوارهما البسيطة، وربما مات جمال في 2002، وهو لا يعلم أن المصريين مازالوا يتذكرونه هو وشقيقه وينسجون حولهما الكثير من القصص والشائعات، والدليل على ذلك أن سوزانا وشقيقتها الكبرى لم يعرفا بأن هناك من يهتم بأمر خاليهما إلا منذ فترة قصيرة، وفوجئتا بكم الأخبار والقصص المنتشرة عنهما بالمواقع المصرية وعلى اليوتيوب تحديدا، الذي ساهم بشكل أساسي في صناعة أسطورتهما.
رحل ميمو وجمال غريبين عن وطنهما، ودفن كل منهما في بلد بعيدا عن الآخر، بعد رحلة استثنائية أظهرا خلالها موهبة نادرة، وارتحلا فيها بين بلاد الله الواسعة.. رحل جمال وميمو وهما أبسط كثيرا مما توقع الجميع، تاركين خلفهما قصة مختلفة، استحقت أن تروى.
————-
يتقدم كاتبا هذا التحقيق بالشكر إلى: سالي محمود، علا القاسم، كريم سعد، عز الدين حسن، حساب (@Ommozmoz) بتويتر، على ما قدموه من مساعدة أثناء إعداد التحقيق، كان لها أكبر الأثر في خروجه بهذا الشكل.