في شارع ضيق بحي الخليفة في القاهرة، ووسط زحام من أضرحة ومقامات آل البيت، ينساه الجميع ولا يكاد يلتفت إليه أحد، فعلى بعد خطوات منه ضريح السيدة سكينة بنت الحسين بن علي، وفي نهاية الشارع يقف شامخا مقام السيدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن بن علي، وبين السيدتين الجليلتين يجتمع عشرات من مشاهد الأشراف والصالحين، في منطقة يحلو لأهلها أن يطلقوا عليها لقب “بقيع مصر”، وفي وسط كل ذلك، يقف مشهد “محمد الأنور” هادئا منزويا بواجهته الضيقة ومساحته المحدودة، وكأنه يخفي سرا لا يريد لأحد فض أختامه.
مسجد “محمد الأنور” هو واحد من الآثار المحيرة والغامضة، فصاحب المشهد لا نكاد نعثر له على ترجمة أو سيرة، فلم تذكره كتب الأنساب واحتارت فيه موسوعات المساجد والأضرحة، والقليل المتوافر عنه يطرح أسئلة أكثر مما يقدم من إجابات، كما أن المسجد ذاته لا يخلو هو الآخر من غموض حول تاريخه والغرض من بنائه والسر وراء بقائه صامدا طوال هذه السنوات رغم عوادي الزمن.
تلك الحيرة التاريخية وراء مسجد “محمد الأنور” –أو “محمد الأصغر” كما تطلق عليه الكثير المصادر- كانت كفيلة بإثارة حماستي لبدء رحلة بحث دقيقة حول تاريخ المكان، إلا أنني لم أكن أتوقع أن ينتهي بي المطاف إلى ما توصلت إليه من فرضيات، ترسم تاريخا مختلفا وشائكا لهذا المسجد، وتربطه بأحد أشهر خلفاء الدولة الفاطمية الحاكم بأمر الله، وبأحد أكثر شطحاته جنونا، وهي محاولة نقل جسد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما من المدينة المنورة إلى القاهرة!
في السطور التالية سوف أحاول سرد تفاصيل رحلة البحث في تسلسل مبسط حتى يستطيع القارئ أن يسير معي دون أن تتسرب منه الخيوط، ونصل معا إلى تلك الفرضية التي إن صحت فسوف تغير بوصلة محبي آل البيت في ذلك الشارع المثير للاهتمام.
كرامات الولي المجهول
كانت البداية ببحث سريع أجريته عبر الإنترنت عن مسجد محمد الأصغر بهدف كتابة تقرير صغير عنه، كنت أنتوي جمع كل ما كتب عنه قبل أن أحدد من أين سوف أبدأ التقرير، ولكني فوجئت بأن كل ما كتب عن المسجد –على قلته- مليء بمعلومات متضاربة ومختلفة بشكل مثير للدهشة، وكانت أكثر هذه الاختلافات ينصب حول حقيقة شخص المدفون تحت قبة المسجد!
وأمام هذا الارتباك، قررت تجاهل كل تلك المعلومات، والتوجه مباشرة إلى المسجد علني أعثر على معلومات دقيقة وموثوقة لدى القائمين على خدمته.
في منتصف شارع الخليفة، وقفت أتأمل المسجد بواجهته الضيقة وهو يكاد يغوص بين المباني العتيقة عن عمد، وكأنه يتهرب من نظرات المارة.
قبل أن أدلف من الباب الخشبي للمسجد، لمحت كتابة بخط النسخ فوق عتب حجري تقول “مسجد حل فيه نجل الزيد .. ذلك الأنور الأجل محمد”، قادني المدخل إلى ممر مستطيل تقع في آخره القبة الضريحية، وعلى يسار الداخل حجرات صغيرة ومكان للوضوء، ثم باب الجزء المخصص للصلاة.
كان مقيم الشعائر بالمسجد يجلس في نهاية الممر أمام الضريح، يرقب الداخل والخارج ويتلقى منهم النفحات، توجهت إليه وكشفت له عما أبحث عنه، كان هادئا يردد بعض الأوردة على مسبحته بعدما أنهى لتوه صلاة العصر، لم يجد حرجا في أن يعترف بأنه لا يعلم الشيء الكثير عن المسجد ولا عن صاحبه، لا هو ولا الإمام، حتى أنهما لا يعرفان كيف يردان على المريدين الذين اعتادوا زيارة المكان لنيل البركات، كل ما يعرفاه أن المدفون أسفل القبة هو محمد الأنور عم السيدة نفيسة، بحسب شجرة النسب الشريف المرسومة على أحد اللوحات المعلقة داخل المسجد.
كما أخبرني أن عمر المسجد قد يصل إلى 800 أو 900 عام، وأن المكان المخصص للصلاة أضيف حديثا، مرجحا أن حجم المسجد كان أكبر في الماضي بدليل وجود آثار لمباني يعتقد أنها كانت جزء من المسجد وأزيلت في وقت لاحق.
أثناء حديثي القصير معه، دخل إلى قبة الضريح عدة أشخاص بينهم سيدة في منتصف العمر دعا لها مقيم الشعائر بالزوج الصالح عندما دست عملة ورقية في يده، ورجل يرتدي بذلة ربما يعمل محامي أو أستاذ جامعي، وشاب له تسريحة شعر عصرية سجد وقبل أعتاب الضريح قبل أن يدلف إليه.
سألته عما إذا كان يقام مَولد لـ”محمد الأصغر”؟ فأجابني أن المسجد صغير لذا فإن الاحتفال بمولد صاحبه يتم في نفس الوقت الذي تقام فيه احتفالات مولد “السيدة سكينة” في منتصف شهر جمادى الأولى من كل عام.
شعرت أني لن أظفر بالكثير من مقيم الشعائر، وقبل أن أغادر طالبني برجاء صادق، إن توصلت إلى أي معلومات عن صاحب الضريح أن أجمع له هذه المعلومات في كراس صغير حتى يقوم بطباعتها وتوزيعها على محبي “محمد الأنور” وكل من يسأل عنه وعن تاريخه.
بعدما خرجت لاحظت وجود منزل متهالك ملاصق للمسجد، يبدو أنه خال من السكان وآيل للسقوط، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود محلين تجاريين أسفله ما يزالان يمارسان نشاطهما، منظر المنزل المخيف يوحي بأنه قد ينهار في أية لحظة فوق رؤوس المارة ويدمر المسجد.
بخطوات حائرة غادرت المكان، وأنا أسأل نفسي: إذا كان القائمين على المسجد لا يعرفون عنه شيئا، فما بال عموم الناس الذين يأتون لزيارة الضريح؟! قطعا هم لا يعرفون أي شيء عن صاحبه، وبالرغم من ذلك لم يمنعهم جهلهم بالرجل المدفون أسفل القبة من تقديس المكان والحرص على زيارته والتبرك به والتبرع له ولخدامه!
وأمام هذه الحيرة، قررت اللجوء إلى كتب التاريخ والآثار الإسلامية بهدف الوصول إلى معلومة دقيقة يمكن الاعتماد عليها بشأن المسجد وصاحبه.
أثر فاطمي عمره ألف عام
يقول الدكتور عاصم رزق في كتابه الموسوعي “أطلس العمارة الإسلامية والقبطية بالقاهرة”، إنه لم يعثر على ترجمة وسيرة لمحمد الأنور في كل المصادر والمراجع التي استطاع الاطلاع عليها خلال إعداده لتلك الموسوعة، وهو ما يبرر عدم إحاطة القائمين على المسجد حاليا بأي معلومات واضحة عن “محمد الأنور”، ويبرر سبب عدم إقامة مَولد مستقل له حيث لا يعرف أحد لا تاريخ مولده ولا وفاته.
وبالرغم من ذلك، يمكن إجمال الآراء حول شخص المدفون في قبة محمد الأنور إلى 4 آراء، الأول قول علي مبارك في “الخطط التوفيقية” نقلا عن السخاوي في كتابه “تحفة الأحباب وبغية الطلاب”، من أن البعض يزعم أن محمد الأنور هو نجل زين العابدين بن الحسين بن علي، حيث يرجح علي مبارك عدم صحة هذا القول بدليل أن علماء الأنساب لم يذكروا أن زين العابدين كان له ولد يدعى محمد الأنور أو محمد الأصغر من الأساس، مستشهدا بقول العبيدلي النسابة أن مشهد محمد الأنور “من مشاهد الرؤيا”.
والرأي الثاني هو الرأي الأكثر شيوعا والذي تعتمده وزارة الأوقاف المصرية طبقا للوحة النسب الشريف المعلقة داخل المسجد، وهو أن محمد الأنور ابن زيد الأبلج بن الحسن بن علي، أي أنه عم السيدة نفيسة صاحبة المشهد الشهير بالقاهرة.
بينما يرى حسن قاسم في كتابه “المزارات الإسلامية” رأيا ثالثا، وهو أن “محمد الأنور” هو ابن زيد شقيق السيدة نفيسة وليس عمها -وعلى الرغم من تبني حسن قاسم لهذا الرأي إلا أنه ذكر مسجد محمد الأنور ضمن مشاهد الرؤية في كتابه!.
أما الرأي الرابع، فهو رأي ينتشر على بعض المواقع غير الموثوقة على الإنترنت، ويبدو أن صاحبه أراد التوفيق ين الرأيين السابقين، فزعم أن المدفون أسفل قبة مسجد محمد الأنور هما شخصان، عم السيدة نفيسة وابن شقيقها معا!
وعن المقصود بمشاهد الرؤيا، تقول الدكتورة سعاد ماهر في موسوعة “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون”، أنه ظهر في العصور الوسطى ما يعرف باسم أضرحة الرؤيا “فإذا رأى ولي من أولياء الله الصالحين في منامه رؤيا مؤداها أن يقيم مسجدا أو ضريحا لأحد من أهل البيت أو الولي المسمى في الرؤيا، فكان عليه أن يقيم الضريح أو المسجد باسمه”، ومع مرور الزمن ينسى الناس أن الضريح مجرد مشهد رؤيا فارغ ويأخذون في تقديس المكان معتقدين أن الضريح به أحد الأشراف أو الأولياء بالفعل.
ويظهر من كلام المؤرخين أن المسجد كان يطلق عليه اسم “محمد الأصغر” في بداياته، ثم شاع إطلاق اسم “محمد الأنور” عنه في مراحل متأخرة.
كل ذلك يزيد من الشكوك حول شخص المدفون في القبة المنسوبة لمحمد الأنور، بل ويزيد الشكوك في وجود شخص بهذا الاسم قد عاش يوما.
أما عن بناء المسجد نفسه، فيشير كل من السخاوي وعلي مبارك أن أول من بنى مشهد محمد الأنور، هو الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، حيث كان ذلك البناء ضمن ثلاث مساجد أخرى عرفت باسم “المساجد الحاكمية المعلقة”.
ويقول السخاوي إن الحاكم أمر ببناء هذه المساجد المعلقة في رمضان سنة 402هـ بالقرب من مسجد أحمد بن طولون، بعدما أخبر أن في هذا الموضع قبور جماعة من الأشراف، أي أن عمر المسجد يزيد على ألف عام.
ويضيف علي مبارك أن من بين هذه المساجد الثلاثة، مسجد “محمد الأصغر”، والمسجد المعروف عند العامة بمسجد عبدالرحمن الطولوني، بينما المسجد الثالث اختفى مع مرور الزمن، مرجحا أنه كان يقع بالقرب من المسجدين الأولين ثم زال.
ويشير السخاوي إلى أن المسجد شهد عمليات ترميم عدة في عهد دولة المماليك بقسميها دون أن يفصّل أو يوضح أشخاص القائمين على تلك الترميمات، أما عاصم رزق فيبين أن المسجد تم تجديده في سنة (1195هـ/1780م) طبقا للكتابة التاريخية التي لازالت منقوشة على باب المسجد الملحقة به القبة، في عهد الوالي العثماني محمد باشا سلك -وفي بعض المصادر محمد باشا ملك- الذي كان يتولى حكم مصر من قبل الدولة العثمانية، وقبل هذا التاريخ بسنوات قليلة قام الأمير عبدالرحمن كتخدا بتجديد باب المسجد كما يقول حسن قاسم في “المزارات الإسلامية” ضمن أعماله لترميم عدد من المشاهد بشارع الأشراف.
وفي لوحة وضعت على مدخل المسجد، نكتشف أن القبة والمسجد تم تجديدهما مرة أخرى عام 1387هـ/1967م بجهود ذاتية لأحد الموسرين من سكان المنطقة ويدعى “الحاج محمد النبيعي”، ويبدو أن هذا التجديد لم يكن على الوجه الأمثل، حيث أغلق المسجد بعدها بسنوات بسبب تدهور حالة مبانيه، قبل أن يتدخل أهالي المنطقة مجددا ويقدمون مساهمات مالية للجهات المسؤولة لتسريع عملية إصلاحه وفتحه للصلاة والزيارة، وهو ما تم لاحقا بالفعل.
ويؤكد عاصم رزق، أن المسجد الملحق بالقبة هو مسجد حديث، حيث لم يتبق من العمارة الأثرية للزاوية التي كانت ملحقة بالقبة شيئا يذكر بعدما أقيم المسجد بدلا منها، فيما يعتقد أن القبة الضريحية تعود للعصر الفاطمي ولكن أدخل عليها الكثير من الترميمات، وأسفل هذه القبة يقع مدفن تعلوه تركيبة خشبية غير محددة التاريخ، بينما لم يعد هناك أي أثر للمنارة “المئذنة” القصيرة التي ذكرها علي مبارك عند الحديث عن المسجد.
وعلى هذا، يصبح مسجد محمد الأصغر مجرد مشهد رؤيا، منسوب لشخصية لم يعرف التاريخ عنها شيئا ويشكك في وجودها النسّابون والمؤرخون، ولولا حب أهالي المنطقة وتعلقهم بهذا المسجد وبشخص محمد الأصغر الذي لا يعرفون عنه شيئا لزال هذا المسجد منذ سنوات ولم يعد له أثر.
كان يمكن للقصة أن تنتهي عند هذه النقطة، لولا إشارة عابرة، فتحت أمامنا بابا للبحث، قد يغير من كل التاريخ المذكور أعلاه عن مشهد محمد الأصغر وصاحبه وغرض بنائه، تلك الإشارة هي “المساجد الحاكمية المعلقة” التي قيل أن الحاكم بأمر الله بناها فوق قبور جماعة من الأشراف.
وهنا بادرني سؤال جعلني أبدأ رحلة بحث جديدة غير متوقعة، وهو: هل المساجد الحاكمية المعلقة، هي ذاتها المشاهد الثلاثة التي بناها الحاكم بأمر الله على أمل أن ينقل إليها جثامين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما من المدينة المنورة إلى القاهرة؟
أغرب شطحات الحاكم
اشتهر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي بأوامره الغريبة وأفعاله المثيرة للجدل، حتى أن المقريزي لم يجد وصفا يمكن إطلاقه على فترة خلافة الحاكم سوى قوله إن “أفعاله لا تعلل، وأحلام وساوسه لا تؤول”، ليعبر عن عدد لا يصحى من الوقائع الغريبة والشاذة التي حفل بها حكم هذا الخليفة الذي حير المؤرخين.
إلا أن محاولة الحاكم نقل جسد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبو بكر الصديق وعمر الخطاب رضي الله عنهما، لدفنهم في أرض مصر، تظل هي الأغرب في تاريخ هذا الخليفة الذي ملأ الدنيا ضجيجا وصخبا.
يقول الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه (الدولة الفاطمية في مصر.. تفسير جديد) إن المصادر الفاطمية والدراسات القائمة عليها لم تشر بأي حال إلى محاولة نقل الحاكم لجثامين النبي وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وكان أول من تطرق للحديث عن هذه المحاولة وكشف تفاصيلها، هو الجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري، في كتابه الشهير “المسالك والممالك”، وذلك في معرض حديثه عن جغرافيا مصر.
ويقول البكري في كتابه عن هذه الواقعة -وهو النص الذي سنعتمده أساسا في البحث عن المشاهد الثلاثة-: “وبين الفسطاط ومدينة القاهرة نحو ميلين في خراب كانت مساكن لكتامة وغيرها، وهناك اليوم ثلاثة مشاهد على الطريق من الفسطاط إلى القاهرة بناها الحاكم ولها السدنة والخدمة، وتوقد فيها السرج الكثيرة الليل كله. وزعموا أنه كان أراد نقل جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجثة أبي بكر وجثة عمر رضي الله عنهما إليها”.
ويكشف الجغرافي الأندلسي، أن الحاكم أغدق الأموال على بعض رجاله لتنفيذ هذه المهمة، فتوجهوا إلى المدينة واستأجروا عددا من الدور القريبة من المسجد النبوي، وبدأوا في حفر خندق طويل باتجاه الغرفة النبوية الشريفة، على أمل الوصول إلى الجثامين ونقلها سرا إلى القاهرة، وبينما كان رجال الحاكم على وشك النيل من جسد الرسول، اكتشف أهل المدينة هذه الجريمة فألقوا القبض على رجال الحاكم وقتلوهم ومثلوا بهما، ثم ردموا تلك الحفرة وصبوا عليها الرصاص.
ويظهر من كلام البكري، أن المشاهد كانت موجودة وقت إعداده لكتابه “المسالك والممالك”، والذي يعتقد أنه كتبه عام 460هـ/ 1058م، اعتمادا على الكثير من الملاحظات التي وردت فيه، أي بعد قرابة 40 عاما على واقعة اختفاء الحاكم بأمر الله في عام 420هـ، كما يظهر من كلامه أن المشاهد ظلت مضاءة ويتم مراعاتها طوال تلك الفترة.
وبعد نحو 400 عام على وفاة البكري، جاء المؤرخ ابن فهد المكي برواية شبيهة -ولكنها ليست متطابقة- في كتابه “إتحاف الورى بأخبار أم القرى”، أكد فيها سعي الحاكم لنقل الجسد الشريف.
يقول المكي في كتابه عن هذه الواقعة: “سنة تسعين وثلاثمائة.. فيها أشار بعض الزنادقة على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه وحملهم إلى مصر، وزين له ذلك وقال: متى تم هذا الأمر يشد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منقبة يعود جمالها على مصر وساكنيها. فدخل ذلك عقل الحاكم، فأرسل إلى أبي الفتوح أمير مكة يأمره بذلك”.
ويتابع بأن أبو الفتوح توجه في عدد من رجاله إلى مسجد الرسول، وفور وصوله، حضر إليه جماعة من أهل المدينة، بعدما بلغهم السبب الذي جاء من أجله والجريمة التي يوشك أن يقدم عليها، ولم يشأ أهل المدينة أن يجادلوا أبو الفتوح في أمر هو من المسلمات، بل أحضروا قارئا للقرآن وطلبوا منه أن يقرأ الآيات من 12 إلى 14 من سورة التوبة، وعندما انتهى من التلاوة اضطربوا وكادوا يقتلون أبو الفتوح ورجاله، فتراجع الرجل قائلا “الله أحق أن يخشى” رافضا أن ينفذ أمر الحاكم بإخراج جسد الرسول، وفي تلك الليلة شهدت الجزيرة العربية رياحا شديدة ربما لم تشهد مثلها من قبل، ويختتم المكي روايته بالقول إن هذه الرياح شاع ذكرها في الآفاق، وبالتالي أصبحت حجة لأبو الفتوح أمام الحاكم يبرر بها امتناعه عن نبش القبور الكريمة ورفضه الامتثال لأوامر الخليفة.
ويظهر من الروايتين السابقتين -رواية البكري ورواية المكي- أنهما تتحدان في الهدف وتختلفان في التفاصيل، ما يرجح أن الحاكم حاول مرتين نبش قبر النبي ونقل جسده، وليس مرة واحدة، كانت أولاهما هي ما ذكرها المكي والتي أرسل فيها الحاكم أبو الفتوح لنقل الجسد جهارا نهارا أمام أهل المدينة، ولكن عندما عجز عن فعل ذلك، حاول مرة ثانية مستخدما الحيلة لنقل الجسد سرا، وهي المحاولة التي ذكرها البكري عندما حاول رجال الحاكم حفر خندق باتجاه الحجرة النبوية الشريفة قبل أن يفتضح أمرهم.
ويظهر من كلام المكي أن المحاولة الأولى تمت سنة 390 للهجرة أي في نهاية القرن الرابع، أما المحاولة الثانية فيرجح أيمن فؤاد سيد أن تكون قد وقعت في بدايات القرن الخامس، أي بعد الواقعة الأولى بقرابة عشر سنوات أو يزيد.
ويشير أيمن فؤاد سيد إلى أن الحاكم كان يهدف من وراء هذا المشروع برمته إلى تحوير الجغرافيا الروحية والدينية للعالم الإسلامي، عن طريق حرمان المدينة من أكثر رموزها تقديسا بتحويل قوافل الحجاج إلى العاصمة الفاطمية، ويرجح أن يكون الشخص الذي أشار على الحاكم بهذه الجريمة، هو “ياروختكين العضدي” متولي حرب الرملة.
أما عن الموضع الذي اختاره الحاكم لبناء هذه المشاهد الثلاثة، فلم يتحدث عنه سوى البكري في مقدمة روايته عن الواقعة، واكتفى بالقول أنها كانت “على الطريق من الفسطاط إلى القاهرة”، أي أنها كانت على طريق رئيسي يربط بين مدينتي الفسطاط في الجنوب والقاهرة الفاطمية في الشمال، فيما لم يهتم كثير من المؤرخين بالحديث عن موضع هذه المشاهد بالتحديد، ربما لانتفاء الغرض الذي أنشئت من أجله، أما الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه “القاهرة.. خططها وتطورها العمراني”، فقد أكد أن المشاهد الثلاثة شيدت بالقرب من جامع أحمد بن طولون.
سؤال غريب منطقي!
وهنا نعيد السؤال مجددا، هل المساجد الحاكمية المعلقة -والتي من بينها مسجد محمد الأصغر- هي ذاتها المشاهد الثلاثة التي بناها الحاكم لاستقبال جثامين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه؟
بعد هذا الاستعراض، يبدو السؤال منطقيا، فالأولى ثلاثة مساجد، والثانية ثلاثة مشاهد، والأولى بناها الحاكم بأمر الله والثانية بناها الحاكم كذلك.
أما عن موضع بنائها، فمشاهد النبي وصاحبيه بنيت على طريق رئيسي يربط بين مدينتي الفسطاط والقاهرة بالقرب من مسجد أحمد بن طولون، والمساجد الثلاثة الحاكمية المعلقة بنيت كذلك بالقرب من مسجد أحمد بن طولون، على الطريق الذي هو امتداد شارع المغربلين حاليا، كما يقول المقريزي في كتابه “المواعظ والاعتبار” في معرض حديثه عن حارة “المصامدة”، وهو طريق رئيسي كان ولايزال يبدأ من باب زويلة وينتهي عند مشهد السيدة نفيسة، أي أنه كان يربط بين الفسطاط والقاهرة.
أما عن تاريخ بناءها، فيقول أبو الحسن السخاوي أن المساجد الحاكمية المعلقة بنيت في شهر رمضان سنة 402هـ، وهو تاريخ يتوسط الفترة الزمنية بين المحاولتين الأولى والثانية التي سعى فيهما الحاكم لنقل جسد النبي وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وهو ما يتناسب إلى حد كبير مع فرضية أن المساجد المعلقة هي نفسها المشاهد التي أعدت لاستقبال الجثامين الشريفة.
ولكن إن صح أن المساجد الحاكمية المعلقة، والتي من بينها مسجد محمد الأصغر، هي ذاتها المشاهد التي بناها الحاكم لاستقبال جثامين الرسول وصاحبيه، فلماذا تجاهلها المؤرخون ولم يقولوا ذلك صراحة؟
ولكي أجيب على هذا السؤال، وضعت الفرضية التالية التي يمكن أن تكمل الصورة وتجعلها واضحة المعالم، مقنعة التفاصيل، والتي يمكن أن تفسر الكثير من الغموض حول مسجد محمد الأصغر وحقيقة هذا الشخص الغامض الذي لا نعرف عنه شيئا:
* بنى الحاكم بأمر الله المشاهد الفاطمية الثلاثة لاستقبال جثامين النبي وصاحبيه في مطلع القرن الخامس الهجري، في منتصف الفترة بين المحاولتين الأولى والثانية لنقل الجثامين، وذلك في الموضع الذي حددناه بشارع الخليفة بالقرب من مسجد السيدة سكينة، على الطريق الواصل بين الفسطاط والقاهرة، في مواجهة جدار القبلة بمسجد أحمد بن طولون.
* ظلت المشاهد الثلاثة قائمة ومضاءة ولها السدنة والخدمة ومهيئة لاستقبال الجثامين الثلاثة لعدة عقود متواصلة منذ بنائها وحتى اختفاء الحاكم الذي كان لايزال يأمل في نقلها يوما، كما استمر الاهتمام بها عقب اختفائه وحتى كتابة البكري لكتابه “المسالك والممالك” بعدها بأربعين سنة، وربما استمر الاهتمام بها حتى نهاية الدولة الفاطمية، وتفسير ذلك أن الفاطميين توارثوا تلك الرغبة في نقل جسد النبي وصاحبيه ولم تنته تلك المحاولات باختفاء الحاكم، بل كررها الخليفة الحافظ الذي حكم ما بين 524-544هـ، حيث أرسل رجاله للمدينة لنقل الجسد سرا، وهي المحاولة التي يروي تفاصيلها الدكتور محمد حلمي محمد أحمد، في تحقيقه لكتاب “اتعاظ الحنفا” وكيف انتهت إلى الفشل.
* الاهتمام الرسمي من قبل الدولة بهذه المشاهد، انتهى بانتهاء الدولة الفاطمية، إلا أن قدسيتها ظلت محفوظة لدى نفوس العامة، وهو ما يتناسب مع العقلية الجمعية للشعب المصري عبر تاريخه، فظل المصريون يقدسونها، حتى مع نسيان السبب الأساسي الذي أنشئت من أجله بفعل الزمن، وليبرروا اهتمامهم وتقديسهم لهذه المشاهد لجأوا لاحقا إلى فكرة “الرؤيا” في تحديد المدفون بهذه المشاهد، ونسبوها لأشخاص قالوا إنهم من آل البيت حتى يحافظوا على قدسية المكان، وربما كان هناك من ينتفع من اهتمام الناس بهذه المشاهد وتقديسها فدفع في هذا الاتجاه.
* ومما يرجح ذلك، حالة الارتباك الكبير في تحديد الشخص المدفون في مشهد “محمد الأصغر”، وعدم وجود شخص يدعى “عبدالرحمن الطولوني”، وعدم وصول أي معلومات واضحة عن المشهد الثالث.
* اختلط الأمر على المؤرخين بشأن المساجد الحاكمية المعلقة، ولم يقطعوا بأنها هي ذاتها المشاهد التي بناها الحاكم بغرض استقبال جثامين النبي وصاحبيه، وقد يرجع السبب في ذلك إلى الحالة الاستثنائية للمباني الثلاثة، فالمشاهد بنيت وأقيمت عليها الخدمة وهي لاتزال فارغة، ثم مات الحاكم وهي لا تزال عليها الخدمة -بحسب كلام البكري-، ووضع كهذا كفيل بأن يحدث خلطا لدى العامة ولدى المؤرخين أنفسهم.
* كما أن “البكري” لم يحدد مكان المشاهد الثلاثة بدقة في “المسالك والممالك” ليعين المؤرخين على الربط بين الفكرتين، وفي ظل انتفاء الهدف الأساسي من بناء المشاهد وهو استقبال الجثامين الشريفة، لم يعد هناك دافع قوي لدى المؤرخين للبحث خلفها.
* أضف إلى ذلك، أنه عادة لا يبذل المؤرخون كبير جهد للبحث خلف مشاهد الأولياء وآل البيت، لأن مجهودهم ينتهي عادة دون الوصول إلى معلومة موثوقة، ولا يستجلب عليهم ذلك البحث سوى سخط العامة الذين يقدسون مثل هذه المشاهد، لذا اعتاد المؤرخون إما نقل المتواتر حول تاريخ المشهد دون تدقيق، أو تجاهل الأمر برمته خاصة إذا كان المشهد من مشاهد الرؤيا أو مقطوع بعدم صحته أو متعلق بشخصية لا يذكر التاريخ عنها أي شيء، وهو ما نراه في موسوعة “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون” حيث تجاهلت الدكتورة سعاد ماهر مشهد “محمد الأصغر” تماما ولم تذكره في موسوعتها التي تناولت مشاهد أخرى في الشارع ذاته، من بينها مشهد السيدة سكينة الذي يبعد عن “محمد الأصغر” عدة أمتار.
* لو أن مشهدا من الثلاثة يمكن أن يكتب له الصمود أمام عوادي الزمن والاستمرار قائما حتى الآن، فسيكون بطبيعة الحال هو المشهد الذي حظي بأكبر قدر من اهتمام العامة وتقديسهم، ما يعني أن المشهد المعروف حاليا باسم “محمد الأصغر” هو على الأرجح، المشهد الذي خصصه الحاكم لاستقبال جسد الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كان بطبيعة الحال هو الأكبر حجما ومساحة، والذي تقلصت مساحته مع مرور الزمن بعد تهدم الكثير من عمارة المشهد الأصلي.
* ما يؤيد فرضية أن مشهد “محمد الأصغر” هو المشهد الذي خصصه الحاكم لاستقبال جسد النبي، هو اختيار الاسم الذي أطلق من قبل العامة على من زعموا أنه دفن في المشهد، وهو اسم “محمد الأصغر”، فهو “محمد” آخر غير النبي الذي كانوا ينتظرون وصوله، وبما أن الرسول “محمد الأكبر” لايزال مدفونا في المدينة، فمن المقبول أن تخترع العقلية الجمعية “محمد أصغر” تزعم أنه مدفون في المشهد لتبرر تقديسه.
بداية طريق الحجاج
بعد هذه الرحلة الغريبة وتلك التفاصيل غير المتوقعة، عدت إلى مسجد محمد الأصغر مجددا، كانت تفاصيله قد تغيرت في عيني، وبت استشعر سر الغموض الكامن بين حجارته العتيقة، دلفت إلى الحجرة الضريحية، أخذت أتفحص كل شبر فيها علني أجد شيئا يؤكد صحة ما توصلت إليه، في غمرة بحثي، لمحني خادم المسجد وتذكرني، فجاء إلي مهرولا، سألني: هل جمعت سيرة سيدي محمد الأنور؟
نظرت له وعلى وجهي ابتسامة حائرة، وأنا أتخيل ما توصلت إليه مطبوعا في كراس والخادم يقوم بتوزيعه على مريدي المشهد دون أن يقرأه! بعد تفكير قلت له: لقد جمعت كل شيء عن محمد الأنور.. وسوف أطبعه وأحضره لك، ولكن هل تعتقد أن الناس ستصدق ما كتبته؟ فسألني: ولماذا لن يصدقوك؟ لا أعلم كيف جاوبته، فلقد انطلقت الكلمات مني دون وعي وبتلقائية لم أتعمدها، قلت له: لقد عرفت كل شيء عنه بعد رؤيا رؤيتها في المنام!
لمعت عيني الخادم وهو يحدق في، كان يحاول استيعاب ما أقول وما إذا كنت مازحا أم أتحدث بجدية، وفي غمرة اندهاشه، تركته وغادرت المسجد صامتا، وتركت خلفي ذلك الأثر الذي بت أعتقد أنه فريدا من نوعه لا مثيل له في الهدف الذي أنشئ من أجله في العالم أجمع، ثم سرت في “بقيع مصر”، تلك المنطقة التي ظلت لسنوات طويلة بداية طريق الحجاج والمعتمرين، المحبين والعاشقين، في رحلتهم الطويلة والشاقة، إلى الأراضي المقدسة، مكة والمدينة.
* نشر هذا التحقيق في مجلة “أخبار الأدب” بتاريخ 10 نوفمبر 2019.