الجو العام في لبنان خلال فترة الستينيات كان متوترًا للغاية، بسبب ما يجري على الحدود من مشكلات متعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك الطائفية الداخلية التي كانت تضرب المجتمع هناك. ولكن بيروت كانت مقصدًا لكثير من صناع السينما المصريين في فترات معينة، ومنها نهاية الستينيات ومعظم فترة السبعنينيات تقريبًا، حتى أن أسماءً مهمة في تاريخ مصر صنعت أعمالا سينمائية لبنانية صرف، ومنها على سبيل المثال المخرج هنري بركات، الذي أخرج فيلم «سفر برلك»، وكذلك يوسف شاهين الذي أخرج فيلم «بياع الخواتم»، والفيلمان من بطولة فيروز، والأخير في إحدى استفتفاءات السينما اللبنانية – على غرار أفضل 100 فيلم مصري – كان في صدارة قائمة أفضل فيلم في تاريخ لبنان.
ولكن هذا الفيلم قوبل في لبنان حينها بقسوة شديدة، وبهجوم لا مثيل له، حتى أن بعض الصحف والمجلات اللبنانية وجهت اتهامًا لشاهين بأنه يحاول القضاء على السينما اللبنانية!
«هذا الرجل يريد – بدون قصد ولا تصميم ولا سابق إنذار أن يقضي على شيء اسمه: صناعة السينما في لبنان» هكذا كتبت مجلة «العروسة» الفنية اللبنانية في عددها الصادر في أبريل سنة 1966، مؤكدة أن صناعة السينما اللبنانية نهضت على أكتاف العشرات وأموال المئات وجهود الآلاف على وشك الانهيار بسبب يوسف شاهين.
هذا الرجل، وحسب وسف المجلة، يريد أن يحطم ظلمًا وعدوانًا كل شيء، وينسف السينما اللبنانية من جذورها وينعيها ويطلب بعد ذلك قراءة الفاتحة والصلاة حين لا تنفع الصلاة، ولهذا ندق اليوم مسبقًا ناقوس الخطر، ونطلب أن يوقف هذا الرجل عند حده، وإذا لم يوقف عند حده فالخطر كل الخطر أن تقف السينما اللبنانية عند حدها.
ويعترف الكاتب الذي لم يمضي مقاله بأن يوسف شاهين سابق لعصره وزمنه، وأنه مخرج عبقري بالفعل، وهو يريد أن تصبح السينما اللبنانية، سينما أمريكية، وهو يعترف بكل هذا لا باستخفاف بقدرة المخرج ولا بكفاءته الفنية، ولكن ما يريد صناعته شاهين في فيلم «بياع الخواتم» قال الكاتب عنه بإنه لا يناسب الزمان ولا يناسب المكان ولا الإمكانيات المادية. هو لا يريد أن تكون لبنان حقلاً لتجارب السيد شاهين.
فالوضع في لبنان – سينمائيا – لا يحتمل المغامرة ولا يحتمل تنفيذ الأفكار التي وصفها الكاتب بـ«الجهنمة»، لأنه يعترف في النهاية أن شباك التذاكر هو الحكم، وهو المحدد لاستمرار الصناعة كاملة، حيث خشي ألا يجد الفيلم المردود الإيجابي والمنتظر له، سواء في لبنان أو خارج لبنان، وبالتالي لا تستطيع السينما هناك أن تقف على قدميها.
المكتوب في المجلة حمل وجهة نظر الكاتب بشكل كبير، كما حاول الكاتب أن يجعله متطابقا لوجهة نظر صناعة السينما في لبنان، وكأنه يتحدث باسمها، لاسيما حين قال إن تاريخ يوسف شاهين يشهد على ذلك، حيث أنه نفذ عددًا من الأعمال السينمائية المهمة، ولكنها فشلت على المستوى المادي، ومنها فيلم «باب الحديد» الذي خرب بيت منتجه «جبرائيل تلحمي»، وفيلم «شيطان الصحراء» الذي أنهى وجود الشركة المنتجة له «الشرق»، وكذلك فيلم «بين إيديك» الذي تم إيقاف عرضه بعد اليوم الثالث، وكذلك «فجر يوم جديد» الذي لم يكن قد عُرض حينها، وتوقع الكاتب أن يظل حبيسًا للعلب فترة.
حتى الأفلام التي قال الكاتب إنها نجحت لشاهين، نجده يعدد أسبابًا أخرى للنجاح ليس من بينها المخرج، فيؤكد أن فيلم «جميلة الجزائرية» الذي يحكي قصة المناضلة جميلة بوحيرد ضد الاحتلال الفرنسي، نجح لأن عز الدين ذو الفقار هو الذي كتب السيناريو ونفذه على الورق، فضلا عن شخصية جميلة كونها ناضلت ضد المستعمر في فترة دقيقة للغاية في حياة الجزائر.
ولم ير الكاتب حينها أن فيلم «بياع الخواتم» قد نجح نقديًا، ولا جماهيريًا، لأنه لم يعوض نادر الأتاسي (المنتج) ما صُرف عليه، وهو حوالي نصف مليون ليرة، حيث استطاع تحقيق أرباح في بيروت فقط، بنحو 150 ألف ليرة، وفشل في تحقيق أي نجاحات في سوريا أو في البلاد العربية الأخرى.
ويحذر الكاتب أن شاهين يقوم بإخراج فيلم «رمال من ذهب» لفاتن حمامة، وأن مصارف الفيلم أيضًا وصلت إلى ثلاثة أرباع مليون ليرة، ومازال أمامه وقت آخر في التصوير، وهذا وفقا للكاتب سيخرج المنتج فيليب مرهج من الإنتاج السينمائي من الباب الضيق.
وينصح الكاتب، المنتجين، بأن يتوجهوا إلى مخرجين مثل رضا ميسر أو محمد سلمان، لإخراج أعمالهم لأنهما لا يكلفان المنتج مثل هذه الأرقام الطائلة، مؤكدًا أن حال السينما اللبنانية التي لازالت ناشئة، أو في مهدها لا يناسب يوسف شاهين، او بالأصح عبقرية يوسف شاهين.
إلى هنا انتهى عرض المقال الذي كان الكاتب فيه يتحدث باسم السينما اللبنانية، ولنا فيه بعض الملاحظات:
– فيلم «بياع الخواتم» كان من المفروض أن يستند إلى مخرج فرنسي، لكن حالت ظروف معينة دون ذلك، فتم الاتفاق بين عاصي ومنصور الرحباني، وشاهين ليحل محل الفرنسي في الفيلم الذي كان في الأصل مسرحية استعراضية لفيروز والرحابنة، وفقًا للناقد السينمائي الكبير إبراهيم العريس.
– منتج «بياع الخواتم» نادر الأتاسي في مذكراته التي عنونها باسم «مذكرات ثلاثية الأبعاد» يؤكد على أنه رجل أعمال مهم، وقبل خوضه في تجربة الإنتاج السينمائي كان يملك نصف صالات السينما في سوريا، وخاض غمار تجربة الإنتاج لعرض تلك الأعمال في صالاته، وقد قدم فيلمًا مهمًا استطاع أن يحقق له أرباحا كبيرة وهو فيلم «عقد اللولو» لصباح، وفي نفس العام قدم «بياع الخواتم» لفيروز والأخوين رحباني، وهو بذلك قد نفذ مشورة الكثير من المنتجين العالميين في إنتاج فيلم بسيط إنتاجي مضمون الربح التجاري، يستطيع الصرف على فيلم آخر كبير من حيث الإنتاج، وغير مضمون الربح.
– نادر الأتاسي في مذكراته أيضًا أكمل مسيرة عمله الإنتاجي، حتى أنه أقدم على إنتاج مسلسلات أمريكية وفرنسية وكندية، وفي 2007 قدم مسلسلاً ملحميًا عن الشاعر جبران خليل جبران، أي أن «بياع الخواتم» ومخرجه يوسف شاهين، لم يثنياه عن التجربة.
– فيلم «فجر يوم جديد» عرض في السينمات في فبراير 1965، أي قبل زمن كتابة المقال بنحو عام وأكثر، ورغم هذا يؤكد الكاتب أنه مازال حبيس العلب.