في صباح أحد الأيام من عام 1954، استيقظت فتاة في العشرين من عمرها، وسرقت مفاتيح سيارة شقيقتها الكبرى من طراز “موريس”، وانطلقت تقودها على أحد طرق العاصمة اللبنانية بيروت، قبل أن تصادف سيارة كاديلاك لم تكن تعرف صاحبها، لتدخل معه في سباق ومنافسة، في اليوم ذاته، توجه إلى منزل عائلتها أحد أصدقاء أسرتها، وسأل والدتها عمن كان يقود السيارة الموريس في ذلك الصباح؟ لتبدأ قصة استثنائية في حياة “منى رياض الصلح”، الفتاة اللبنانية التي ستصبح لاحقا أول امرأة تسفر عن وجهها في المملكة العربية السعودية!

منى رياض الصلح في شبابها
منى رياض الصلح في شبابها

***

في يوم 16 يوليو 1954، وفي الذكرى الثالثة لاغتيال رياض الصلح رئيس وزراء لبنان الأسبق -والد منى- حضر صديق العائلة الحاج حسين العويني وبرفقته شاب وسيم، هو نفسه سائق السيارة الكاديلاك التي تسابقت معه منى على الطريق دون معرفة أنه الأمير طلال، الابن الثامن عشر للملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، وكانت المفاجأة، أن الأمير طلال جاء طلبا للزواج من منى الصلح!

بعد مناقشات وتفكير استغرقت 20 يوما، وافقت منى والأسرة على طلب الزواج، واستمرت فترة الخطوبة أشهر معدودة، ليتم زواج منى الصلح والأمير طلال في حفل سهرت له بيروت وسُمعت أصداؤه في بقية مدن لبنان والوطن العربي.

الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود في حفل زفافه
الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود في حفل زفافه

منع أم كلثوم من الغناء.. بأمر ملكي!

كان زفاف منى وطلال في ذلك اليوم زفاف الموسم وعُرس العرب، حيث أقيم حفل زفاف غير مختلط، فبينما احتشد الرجال في أوتيل البريستول ببيروت، كانت النساء تتواجد في أوتيل النورماندي، وحضر الحفل كبار رجال الدولة والساسة العرب.

لم يكن هناك شك أن من سيحيي الحفل، هي أهم مطربة بالوطن العربي حينها، السيدة أم كلثوم، التي دعيت بالفعل لإحياء حفل الزواج الملكي ببيروت بناءا على اتفاق مبرم بعقد موقع من الأمير طلال بن عبدالعزيز والسيدة أم كلثوم إبراهيم مقابل ستة آلاف جنيه مصري، وبشرط ألا تقوم أم كلثوم بإحياء أي حفلات غنائية أخرى في نفس وقت الزفاف!

ولكن، وبعدما تمت كل الاستعدادات ووصلت أم كلثوم إلى لبنان، جاءت برقية عاجلة قادمة من السعودية، وبالتحديد من الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود -ملك السعودية حينها- يطلب فيها منع الغناء بحفل زفاف شقيقه لما يتنافى ذلك مع تقاليد المملكة.

صورة العقد الموقع بين أم كلثوم والأمير طلال
صورة العقد الموقع بين أم كلثوم والأمير طلال

الموقف المفاجئ تطلب تدخلا عاجلا لمنع تعرض أم كلثوم للحرج، حيث تدخلت نقابة الموسيقيين اللبنانيين سريعا، وقررت إقامة حفلا تحييه أم كلثوم في فندق الكابيتول بحضور رئيس الوزراء اللبناني حينها سامي الصلح، وعدد من السياسيين والمثقفين والفنانين، بالتزامن مع حفل الزفاف.

في يوم الحفل، طلب الصحافي والإذاعي اللبناني جورج إبراهيم الخوري، من صديقه سعيد فريحة أن يقدم الست قبل بدء الحفل، فنظر سعيد إلى أم كلثوم داعيا ومبتسما قائلا “يا ظالمني”، فسألته الست “مين اللي ظلمك يا سعيد؟” فأشار بيديه الاثنتين “صاحبة العصمة”، فقالت له أم كلثوم: “فين الفرقة؟ وفين بتوع الإذاعة؟ أنا عاوزة الحفل يتذاع على الهوا”.

وبالفعل أذيع الحفل على الهواء، وبدأت الست تحيي حفلها الموازي لحفل الزفاف، حيث بدأت أولى وصلاته بأغنية “يا ظالمني”!

أم كلثوم في حفل نقابة الموسيقيين اللبنانيين
أم كلثوم في حفل نقابة الموسيقيين اللبنانيين

كان زواج الأمير طلال ومنى الصلح حديث الصحف والمجلات في الوطن العربي، ويعود ذلك الاهتمام إلى اعتبارات كثيرة منها أن العروسين صغيري السن، متقاربين فى العمر، ومنسجمان بشكل لم يكن يتوقعه أحد، بالإضافة إلى أن منى الصلح -التي أصبح لقبها الرسمي بعد الزواج “سمو الأميرة”- ستكون أول زوجة بالسعودية تسفر عن وجهها، مع ما يحمله ذلك من تمرد على التقاليد السائدة في المملكة حينها، كما أن أخبار الهدايا وأثواب العروس الحسناء كانت حديث المجتمع اللبناني والسعودي على السواء.

بعد أشهر قليلة من لقائها للمرة الأولى بالأمير طلال، أدلت الأميرة منى بحديث صحفي لمجلة “الاثنين والدنيا” المصرية، نشر بعدد 4 أكتوبر 1954، حيث ذهب محرر المجلة إلى منزل منى الصلح في مصيف عالية ببيروت، وهو المنزل ذاته الذي كان قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات، بمثابة دولاب السياسية اللبنانية عندما كان والدها رياض الصلح يدير شؤون البلاد من داخله.

بعدما استقبلت صحفي المجلة بابتسامتها المعهودة وبعد تقديمه التهنئة لها، سألها مباشرة حول فضول الناس بشأن هذا الزواج، وإذا ما كان الدافع له عاملا سياسيا أم هو مجرد قصة تعارف أدت إلى حب؟

الأمير طلال والأميرة منى رياض الصلح
الأمير طلال والأميرة منى رياض الصلح

أجابت منى بشكل واضح: “لا دخل للسياسة بهذا الأمر إطلاقا”، متابعة “بعد أن تقدم الأمير لخطبتي بعدما أن شاهدني صدفة وبحث عن من أكون، قضيت عشرين يوما أفكر قبل أن أوافق، وبعد تفكير وافقت وأنا سعيدة بهذا القبول، بغض النظر عن كونه أمير من الأسرة المالكة، فالإمارة هي آخر شيء فكرت فيه”.

ثم استرسل محرر المجلة ووجه عدة الأسئلة إلى منى لمعرفة المزيد عن شخصيتها واستعدادها للتوجه إلى المجتمع السعودي بوصفها أميرة وزوجة لأمير، فاسترسلت في الحكي:

– هل تقرأين كثيرا؟
= كثيرا جدا، وأميل إلى قراءة الكتب التاريخية ومعظم الكتب التي أقرأها بالفرنسية.
– من هو الكاتب الذي تعجبين به؟
= بلزاك.
– أيهم أعظم أثرا فى توجيه الحياة العامة.. الأدباء أم رجال السياسة؟
= الأدباء طبعا؛ فإن السياسة قد أصبحت هذه الأيام تجارة والتاجر يبيع ويشتري ولكنه لا يصلح للتوجيه.
– من هو الرجل السياسي المثالي في رأيك؟
= أبي.

والد منى هو السياسي اللبناني الشهير رياض الصلح، المولود بصيدا عام 1893 لأب من أصول مصرية فلسطينية وأم تركية، وعاش حياة النضال منذ شبابه المبكر، وكان له أثر كبير في فصل لبنان عن سوريا وبناء كيان سياسي مستقل للبنان تحت الانتداب الفرنسي.

بعد استقلال لبنان، أصبح رياض الصلح أول رئيس وزراء مستقل في تاريخ لبنان، وهو المنصب الذي تولاه لست مرات.

منى في سن مبكرة مع والدها السياسي اللبناني رياض الصلح
منى في سن مبكرة مع شقيقاتها ووالدها السياسي اللبناني رياض الصلح

واصل محرر “الاثنين والدنيا” أسئلته:

– وماذا كان يعجبك في أبيك؟
= دهائه السياسي وثقته التي لا حد لها بنفسه، ثم نظرته الواسعة فى الشؤون السياسية، لم يكن ضيق الأفق وهذا الذي جعل لبنان في أيامه يلعب الدور الأول فوق مسرح السياسة العربية.
– هل أنتِ من أنصار اشتغال المرأة بالسياسة؟
= أنا ضد اشتغال المرأة بالسياسة والسبب أن المرأة عندنا لا تزال عمليا تحت سيطرة الرجل اقتصاديا واجتماعيا، عكس المرأة الأوروبية التي بدأت تشعر بالتحرر وبعد ذلك اشتغلت بالسياسة، أما أن تقفز المرأة مرة واحدة فهذه ظاهرة غير طبيعية بالمرة، وكل ما أتمناه من أترابي فتيات هذا الجيل المثقفات المتحررات اجتماعيا، أن يبدأن عملهن في الحقل الإنساني، فالمرأة تستطيع أكثر من الرجل أن تعمل على مكافحة البؤس والجهل، فهذا هو ميدانها الطبيعي، أما التفكير في دخول البرلمان والانغماس في مثل المناقشات التي سمعتها من الممثلين البرلمانيين فهو هدر لقوى المرأة ومضيعة لحيويتها ونشاطها وقلبها الحنون.

اعتادت منى أن تحكي دوما عن نساء عائلتها، وما لهن من أثر بالغ في حياتها، وأولهن والدتها، السيدة فايزة نافع الجابري، ابنة شقيق سعد الجابري بطل استقلال سوريا ورئيس وزرائها، وعازفة البيانو وصاحبة الصوت الجميل، بالإضافة إلى شقيقاتها، وبالأخص شقيقتها الكبرى علياء التي استمرت على درب أبيها في النضال ولقبت بـ”حارسة الاستقلال”.

تزوجت علياء من ناصر الدين النشاشيبي وغادرا إلى مصر حيث ولاه الرئيس جمال عبد الناصر رئاسة تحرير جريدة الجمهورية، وأثناء وجودهما بمصر كانت علياء دائما نجمة الجلسات والحوارات التي كانت تجري في بلاط الصحافة والسياسة والسلطة، لقربها وزوجها وصداقتهما برجال مجلس قيادة ثورة يوليو.

وبين شقيقات منى الأخريات، لمياء الصلح، التي تزوجت الأمير مولاي عبد الله، شقيق الملك الحسن الثاني ملك المغرب، وبهيجة الصلح التي تزوجت من سعيد الأسعد، الذي كان سفيراً للبنان في سويسرا وعضوا سابقا في البرلمان، أما أصغر شقيقاتها فكانت ليلى الصلح، التي تزوجت من ماجد حمادة ابن الرئيس اللبناني الأسبق صبري حمادة، والتي أصبحت فيما بعد أول وزيرة في تاريخ لبنان.

منى رياض الصلح مع أمها وشقيقاتها
منى رياض الصلح مع أمها وشقيقاتها

يتابع صحفي المجلة أسئلته:

– هل نفهم من هذا الكلام أنك ست بيت تجيدين طهي الطعام وتدبير أمور المنزل؟
= إني أتعلم ذلك الآن؛ فأنا أحب أن أطعم زوجي بيدي وأرجو أن ينسيه ذلك هموم الدنيا.
– وهل تحبين الشعر؟
= جدا، ويعجبني المتنبي.

تقول منى أنها ورثت حب الشعر والموسيقى عن جدتها لأبيها، السيدة نظيرة مفتي زادة، حيث احتضت بنات رياض الصلح منذ ميلادهن وطفولتهن المبكرة، وكن يستمعن لها وهي تقرأ عليهن أشعار الشاعر الفرنسي الرومانسي “ألفونسو دو لامارتين ” وغيره من الشعراء يوميا.

وعن هواياتها، سألها المحرر:

– وماذا تحبين أيضا؟
= أحب المطالعة وقيادة السيارات والرماية.
– ومن تحبين من أبطال التاريخ؟
= عمر بن الخطاب والمغفور له الملك عبد العزيز آل سعود
– ما هي الصفات التي تعجبك في الرجل؟
= الجرأة والطموح، ولكن في تواضع.
– وأخيرا، ما هي الوصايا التي تحبين أن توجهها سمو الأميرة لطالبات الزواج؟

ضحكت منى، وقالت:
= أولا أنا لا أصلح لإعطاء أي توجيه، فعمري عشرون سنة، ولكن باستطاعتي أن اعترف لطالبات الزواج بأنني لم أسع إليه، فالزواج كالظل إذا فكرت فيه هرب منك وإذا زهدت فيه أقبل عليك.

الأميرة منى رياض الصلح
الأميرة منى رياض الصلح

وعن العريس الملكي قالت منى: “تزوجت رجلا ذكيًا ورغم اعتقاد الكثيرين أنني تزوجت شخصًا ثريًا لأجل ماله لكنه كان ذكيًا ووسيمًا”، مضيفة أنه شخصية صريحة وذو تفكير متفتح وسابق عصره، وأنه ورث الكثير من صفات والده الملك عبد العزيز آل سعود.

أنجبت الأميرة منى الصلح من الأمير طلال بن عبد العزيز ثلاث أبناء هم الأمراء: الوليد بن طلال، وريما بنت طلال، وخالد بن طلال.

كانت منى الزوجة الثانية للأمير طلال، ودام زواجهما 14 عاما، إلى أن انفصلا دون إعلان أسباب، إلا أن منى ظلت محتفظة بلقب “الأميرة” رغم الانفصال، وهو اللقب الذي ظل يلازمها وإن كانت لم تكن تفضل أن يسبق اسمها به أحدا في حديثه معها.

بعد الانفصال، غادرت الأميرة منى الصلح السعودية وعادت للإقامة في لبنان واصطحبت معها أبنائها، لكنهم انتقلوا إلى رعاية أبيهم الأمير طلال بعدما كبروا في العمر، ليتنقلوا بين الرياض وبيروت.

منى الصلح مع أبنائها مع الأمير طلال، الوليد وريما وخالد
منى الصلح مع أبنائها مع الأمير طلال، الوليد وريما وخالد

‏قال عنها الأمير الوليد بن طلال بأنها من أهم الأشخاص الذين ساهموا في تكوين شخصيته، ومن أهم أسباب نجاحه ودفعه لإثبات ذاته في بداية حياته، حتى وصل لما وصل إليه الآن.

وتحكي السيدة منى الصلح عن أن أسعد حدث بحياتها هم أبنائها، وأهم حدث هو اغتيال أبيها، ويقينها دوما منذ طفولتها أن يوما سيصير شيء غير طبيعي لأنه رجل غير طبيعي، حتى تلقت خبر موته “فالأبطال يموتون بهذه الطريقة ولا يموتون بسريرهم” حسب قولها.

عاشت منى حياة ثرية منذ ميلادها، حياة متداخلة مع حيوات الكثير من الأشخاص المختلفين والمليئة بالحياة والثراء مثلها، فأضافوا لها…

حوار مجلة "الاثنين والدنيا" مع منى الصلح عام 1954
حوار مجلة “الاثنين والدنيا” مع منى الصلح عام 1954