في أحد أيام عام 1869، وصلت سيدة غامضة في العقد السادس من العمر، إلى استوديو “ويليام موملر” بمدينة بوسطن الأمريكية، طالبة التقاط صورة فوتوغرافية لها مع روح زوجها المتوفى!
كانت الأرملة ترتدي ملابس الحداد، وقالت للمصور اسما مستعارا خشية اكتشاف شخصيتها الحقيقية، بينما أبقت وجهها مخفيا خلف حجاب أسود.
كانت تلك السيدة معتادة على التعامل مع الوسطاء الروحانيين، وكانت تجيد اكتشاف المحتالين منهم؛ قبل توجهها إلى استوديو موملر، كانت قد حضرت جلسة تحضير أرواح استمعت خلالها إلى ما اعتقدت أنه صوت زوجها! إلا أنها لم تكتف بذلك وأرادت أن تحصل على صورة لها مع روحه لتطئمن أنه يحيا سعيدا في العالم الآخر!
بعدما أعد المصور كاميرته، أزالت السيدة الحجاب عن وجهها، لم يبدو أن موملر تعرف عليها للوهلة الأولى، وبعدما التقط لها الصورة، غاب في قبو مظلم أسفل الاستوديو لعدة دقائق حالما انتهى من التحميض، ثم عاد ممسكا بالصورة وعلامات الدهشة مرتسمة على وجهه!
أظهرت الصورة الأرملة وهي جالسة، وخلفها تقف روح تضع يديها على كتفي السيدة، كانت لهذه الروح نفس ملامح الرئيس السادس عشر في تاريخ الولايات المتحدة، إبراهام لينكولن، الذي كان قد اغتيل قبل ذلك التاريخ بأربع سنوات، ليتضح أن تلك الأرملة لم تكن سوى السيدة الأولى السابقة ماري تود لينكولن.
كانت هذه الصورة نقطة تحول كبرى في حياة المصور الأمريكي الشهير “ويليام هـ. موملر”، الذي عرف عبر التاريخ الأمريكي بوصفه “أول مصور فوتوغرافي للأرواح”!، حيث لفتت هذه الصورة الأنظار إليه بشدة وجعلت شهرته تصل إلى مختلف الولايات، وبالرغم من أنه تم التشكيك في هذه الصورة على نطاق واسع، إلا أن ذلك لم يمنع من انتشارها حتى أصبحت أحد أكثر الصور التي نشرتها الصحف الأمريكية على الإطلاق خلال القرن التاسع عشر، والتي فتحت جدلا غير مسبوق بشأن ظاهرة التواصل مع الأرواح ورصدها، وبالأخص ظاهرة “الصور الروحانية” التي كان موملر مؤسسها ومبتعدها.
في السطور التالية، سنتعرف على قصة هذا المصور المثير للجدل، الذي شغل الأمريكيين لسنوات حتى وصل إلى منصات القضاء، بحثا عن حقيقة ما كان يفعله، وما إذا كانت صوره تتضمن أرواحا بالفعل أم مجرد خدع تقنية، وكيف دافع عن نفسه حتى النهاية، وكيف أخفى سره قبل وفاته إلى الأبد.
عصر التقنية والخرافة!
يصعب استيعاب تفاصيل قصة المصور ويليام موملر، دون استعراض طبيعة الفترة التي عاش فيها والتي ظهرت فيها صوره، وهي فترة في تاريخ الولايات المتحدة يمكن أن نطلق عليها “عصر التقنية والخرافة”!
ففي عام 1848، شهدت أمريكا ظاهرة غريبة لازال البعض يؤمن بها حتى الآن، وهي ظاهرة ادعاء “التواصل مع الأرواح”، التي بدأتها ثلاث شقيقات كن يقمن بقرية هايدسفيل بنيويورك، وعرفن باسم “الأخوات فوكس”.
فقد ادعت هؤلاء الشقيقات أنهن يتخاطبن مع روح ما داخل منزلهن، عن طريق التصفيق أو الطرق على الجدران والمناضد، وكانت تلك الروح ترد عليهن بذات الأسلوب، وعن طريق هذه الرسائل المتبادلة عرفن أن شخصا قتل ودفن في قبو بمنزلهن قبل خمس سنوات.
قصة “الأخوات فوكس” وتفاصيلها التي كانت مقنعة للكثيرين في ذلك العصر، تسببت في انتشار ظاهرة التخاطب مع الأرواح، وظهر بعدهن كثير من الأشخاص الذين ادعوا قدرتهم على التواصل مع من ماتوا، وتكونت جمعيات في كل مكان بالولايات المتحدة للعاملين في مجال الروحانيات! وسرعان ما امتدت هذه الظاهرة خارج أمريكا إلى مختلف بلدان العالم.
بالتزامن مع انشغال الأمريكيين بقضية التواصل مع الأرواح ومدى صحتها من عدمه، كان التصوير الفوتوغرافي لايزال في سنواته الأولى، يعيش أيام التجربة والابتكار الذي لم يكن يتوقف.
فبعدما تم التقاط أول صورة فوتوغرافية معروفة عام 1826 في مدينة “لو غراس” الفرنسية، بدأ هذا الاختراع ينتشر بسرعة جنونية بين بلدان العالم، وكان لأمريكا نصيب الأسد من هذا الانتشار، حيث انشغل كثير من الأمريكيين بفن التصوير وبابتكار أساليب جديدة تساعد على تطوير تلك التقنية وتحسين جودة الصور الملتقطة.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، كانت هناك مئات من استوديوهات التصوير تنتشر في كل الولايات الأمريكية، وتقوم بالتقاط الصور بشكل تجاري، إضافة إلى آلاف من الهواة الذين اقتنوا كاميراتهم الخاصة، والذين كان من بينهم صائغ يدعى “ويليام موملر”.
أول صورة روحية!
في عام 1861، كان الشاب ويليام هـ. موملر يبلغ من العمر 29 عاما، وكان يعمل صائغا يجيد النقش على المجوهرات والمشغولات الذهبية، وإلى جانب عمله الذي يتكسب منه لقمة عيشه، كان يعمل في التصوير الفوتوغرافي كاهو في استوديو محلي بمدينة بوسطن.
كان موملر متزوجا من فتاة تدعى “هانا”، تحاول احتراف العمل في مجال “الوساطة الروحية”، إلا أن موملر لم يبد أي اهتمام بهذا المجال حتى ذلك التاريخ، بل ربما كان ينظر إلى فكرة تحضير الأرواح والتواصل معها على أنها أمر محل شك كبير.
في أحد أيام ذلك العام، حاول موملر التقاط صورة شخصية لنفسه عن طريق تركيز الكاميرا على كرسي فارغ، ثم التوجه سريعا للوقوف إلى جوار الكرسي بعد فك عدسة الكاميرا.
بعد التقاط الصورة، فوجئ موملر بظهور شكل غريب على سلبية الصورة، وعندما قام بتحميضها، ظهر هذا الشكل بوضوح أكثر، لقد كانت هناك فتاة شفافة تجلس على الكرسي، بينما تتلاشى أقدامها في ضباب خافت لا يعرف من أين ظهر!
عندما دقق موملر في صورة الفتاة، اتضح له أنها شديدة الشبه بابنة عمه التي كانت قد توفيت قبل ذلك التاريخ باثني عشرة سنة!
كان موملر مرحا بطبعه ويحب المزاح، لذا قدم هذه الصورة إلى أحد الوسطاء الروحانيين الذين كانوا يتعاملون مع زوجته، وادعى أنها صورة حقيقة التقطت لأحد الأرواح من العالم الآخر، إلا أن المفاجأة، أن الوسيط الروحي صدق هذه المزحة، واعتبر أن هذه الصورة هي أول دليل مادي على صحة عالم الأرواح!
ردة الفعل التي لم يتوقعها موملر، جعلته يعيد النظر في الصورة التي التقطها مصادفة، ثم حاول تكرار التجربة مجددا، حيث تكرر ظهور أشكال شفافة آمن أنها أرواح، وبات مقتنعا أن ما يظهر في صوره هو أمر “خارق للطبيعة”، ليعلن بعدها أنه أصبح أول “مصور للأرواح” في العالم، ويقدم نفسه للزبائن بوصفه قادرا على تصويرهم إلى جوار أرواح أقاربهم وأحبابهم الذين قضوا نحبهم.
دولة مزقتها الحرب
في تلك الفترة، كانت تعاني الولايات المتحدة من اندلاع حرب أهلية طاحنة، سوف تعتبر لاحقا الأكثر دموية في تاريخها، حيث حاولت 11 ولاية جنوبية الانفصال عن الاتحاد وتكوين “الولايات الكونفدرالية”.
أجواء الحرب الأهلية جعلت من أمريكا دولة تعيسة غارقة في البؤس، فقد كان الموت يتغلغل في كل شيء: مياه الشرب قذرة، والهواء ملوث، والدماء منتشرة في ساحات القتال، ولا يكاد يخلو منزل من قتيل سقط أثناء الحرب.
كانت كل الظروف في تلك الفترة مهيئة لاستقبال وانتشار الخرافات، وعلى رأسها فكرة “التصوير الروحي” التي ابتدعها موملر، خاصة في مدينة بوسطن التي كانت تجتذب الوسطاء الروحانيين من جميع أنحاء العالم، إضافة إلى ظهور الاختراعات العلمية الحديثة التي أذهلت العالم حينها، والتي كان الناس يرون ويسمعون من خلالها ما لا يستطيعون تفسيره، مثل الكاميرات والتلغراف والكهرباء.
لذا، ففور إعلان موملر عن نفسه بوصفه “مصورا للأرواح”، سرعان ما بدأ الناس يتكالبون عليه قادمين من جميع أنحاء مدينة بوسطن، ثم بدأت الصحف المحلية تكتب عنه وتنشر صور الأرواح التي يلتقطها، لتزيد من شهرته، وتضخم الحديث عنه مع الوقت، وبات الناس يسمعون بكثرة عن “صور موملر الروحية”.
الشهرة السريعة وطلبات الزبائن المتكررة، دفعت موملر لترك عمله كصائغ، وافتتاح أول استوديو له في شارع واشنطن بوسط بوسطن، حيث طلب آلاف الناس منه التقاط صور لهم بجوار أقاربهم الذين قضوا في الحرب الأهلية، ما كان عاملا رئيسيا في انتشار تجارته الرائجة، التي جنى من خلالها ثروة كبيرة في وقت قصير.
صورة مع شخصية تاريخية!
نتيجة نجاحه السريع، رفع موملر أتعابه إلى أسعار باهظة، ففي ذروة شهرته كان يطلب 10 دولارات مقابل 12 صورة، أي ما يعادل خمسة أضعاف السعر السائد وقتها، مع عدم ضمان ظهور الأرواح في الصور!
وهو ما كان يحدث في كثير من الأحيان، حيث كانت الأرواح لا تظهر في كثير من الصور، وكان على الزبائن الذهاب إلى استوديو موملر أكثر من مرة، قبل الحصول على صورة تظهر بها الأرواح التي يتوقعونها، الطريف أن موملر كان يبرر عدم ظهور الأرواح بأنها غاضبة أو على غير وفاق مع قريبها -الزبون- الذي يرغب في التقاط الصورة معها.
كان الناس يطلبون من موملر ظهور أرواح معينة معهم في الصور، مثل أقاربهم أو أصدقائهم الذين رحلوا، أو أرواح ممثلات المسرح الشهيرات اللاتي كن قد رحلن في ذلك الوقت! وكان البعض الآخر يطلب التصوير مع مرشده الروحي السابق المتوفى، ولكن الأغرب، هو أن البعض كان يطلب التصوير مع أرواح شخصيات تاريخية!
أمام هذه الشهرة، بدأ يتوافد على موملر زئابن من مختلف الولايات الأمريكية، حتى وصل إلى ذروة نجاحه عندما جائته السيدة الأولى السابقة، ماري تود لينكولن.
كانت السيدة لينكولن في تلك الفترة أرملة يائسة، فقد اغتيل زوجها أمام عينيها، وفقدت ثلاثة من أبنائها الأربعة قبل أن يتموا الثامنة عشرة من العمر، ما جعلها تتجه إلى عالم الأرواح بحثا عن علاج لروحها المعذبة، حيث آمنت بأنه يمكن الاتصال بأرواح الموتى عبر الوسطاء.
زعم موملر في مذكراته، أنه لم يكن يعرف السيدة ماري لينكولن عندما جاءته، ولم يكتشف شخصيتها الحقيقية إلا عندما انتهى من تحميض الصورة، فيما عبرت ماري عن رضاها التام بالصورة وإيمانها بأن من ظهرت فيها هي روح زوجها الرئيس السابق، وقالت إنها تجد فيها السلوى لأحزانها.
روح حقيقية.. أم صورة مفبركة؟
كان موملر يتعرض بالفعل للانتقاد والتشكيك في عمله قبل أن يلتقط صورة روح أبراهام لينكولن، إلا أن الانتشار الضخم لهذه الصورة، جعل الأنظار تسلط على موملر بشكل غير مسبوق، وبالتالي رفع من حجم الانتقادات، وكان الجميع يبحث عن إجابة شافية للسؤال الأشهر في بوسطن حينها: هل ما يظهر في صور موملر هي أرواح حقيقية؟ أم أنها مجرد خدع بصرية؟
سعيا وراء الإجابة على السؤال السابق، انشغلت الصحف بشكل كبير بالبحث عن الحيلة التي يلجأ إليها موملر لتنفيذ صوره الروحية المزعومة، بيما اعتقد أغلب مصوري بوسطن أن موملر مخادع ولا يقوم بتحضير الأرواح أو التقاط صورها، وإنما يلجأ إلى حيلة تقنية غير معروفة، ما دفع بعضهم إلى محاولة تقليد صوره لإثبات أنها مفبركة.
كان من بين أشهر من شككوا في موملر، المصور الأمريكي جيمس بلاك، الذي كان معروفا بصوره الجوية لمدينة بوسطن، والذي يعتقد أنه أول من التقط صورة جوية في تاريخ الولايات المتحدة من داخل منطاد عام 1860.
فقد دخل بلاك في رهان مع موملر ذات مرة، وقال أنه سيمنحه 50 دولارا إن التقط له صورة تظهر شبحا حقيقيا دون أي خدع، وبالفعل توجه إلى استوديو موملر لالتقاط الصورة، وقام بفحص الكاميرا جيدا قبل التصوير وفحص اللوحات الزجاجية ونظام المعالجة، وبعد التقاط الصورة، ذهب مع موملر إلى الغرفة المظلمة التي يجري فيها التحميض ليتأكد من سلامة كل شيء بنفسه، ولكنه لم يجد أي شيء غير طبيعي، ليصاب بالدهشة البالغة عندما وجد شبحا يظهر إلى جواره في الصورة فور تحميضها!
وفي الوقت الذي اعتقد فيه المصورون أن موملر يقوم بخدعة تقنية، رأى آخرون أن الخدعة تعتمد على الخداع النفسي والتأثير الذي يحدثه موملر في النفوس الضعيفة التي تشعر بالفقد والاحتياج إلى أحبابهم الذين رحلوا.
فقد كتب المصور الشهير أوليفر ويندل هولمز في مقال له بمجلة أتلانتك الشهرية عام 1963 يقول: “إن السيدة براون -وكانت زبونة لدى موملر- فقدت طفلتها وتتمنى أن تلتقط صورة روحها، لذا فيكفي لهذه الأم المسكينة التي أعمت عيناها الدموع، أن ترى كومة من الأقمشة تشبه ثوب الرضيع وشيئا دائريا يشبه الوجه، لتظن أن هذه هي روح طفلتها”.
اللافت أن الطريقة التي تحدث عنها هولمز كانت شائعة بالفعل لدى مصورين آخرين ادعوا قدرتهم أيضا على تصوير الأرواح تقليدا لموملر، حيث لجأوا إلى خدع ساذجة لعمل تشكيلات تشبه الأوجه البشرية للإيحاء بأنها أرواح، ولكن على الرغم من ذلك، كانت الأرواح في صور موملر لها سمات بشرية واضحة ولم تكن تشبه تلك الخدع الساذجة التي لجأ إليها المصورون الآخرون.
نتيجة الانتقادات المستمرة، وبالرغم من أن أحدا لم يستطع تقديم دليل قاطع على أن موملر يفبرك صوره الروحية، وبالرغم من تمسك موملر وإصراره على صدق وسلامة صوره، إلا أن سمعته تضررت بشدة وبات الكثيرون من زبائنه يميلون إلى أنه يستخدم حيلة ما، وقد قويت هذه الشكوك بعد انتشار أخبار بالصحف المحلية تزعم أن بعض الأرواح التي ظهرت في صور موملر الفوتوغرافية كانت في الواقع لأناس لايزالون على قيد الحياة! لذا وجد موملر أن الوقت قد حان لينقل عمله إلى مدينة أخرى غير بوسطن.
أرواح موملر في نيويورك
في عام 1868، وبعد سنوات من التقاطه لصورة روح إبراهام لينكولن، انتقل موملر إلى نيويورك واستأجر استوديو في منطقة تشتهر بتجمع استوديوهات التصوير في برودواي.
كتب موملر يقول في كتاب دعائي صغير نشره ليروج لنفسه في نيويورك: “يا لها من فرحة كبيرة للقلب الحزين، يا له من شيء يثلج الصدور المتألمة، عندما نعلم أن أصدقاءنا الذين ماتوا يمكن أن يعودوا، كما يعطينا ذلك دليلا لا لبس فيه على الحياة الآخرة”.
خلال عام واحد، أصبح موملر أشهر ممارس للتصوير الفوتوغرافي في نيويورك، حيث التقط ما يقرب من 500 صورة، ما مكنه من شراء استوديو في مبنى رقم 630 ببرودواي، وفي هذا الاستوديو بالتحديد قام بتصوير “تشارلز ليفرمور” الذي كان سببا في استعادة موملر لسمعته.
كان ليفرمور يعمل في مجال تحضير الأرواح، حيث أرسلته صحيفة “نيويورك صن” ضمن فريق من المحققين السريين إلى موملر، لإعداد تقرير عن صوره ومحاولة كشف حقيقتها.
جلس ليفرمور أمام موملر ليصوره بحثا عن الحيلة التي يستخدمها، كان ساكنا وينظر إلى العدسة كتمثال، بعدما انتهى موملر اصطحبه ليفرمور إلى الحجرة المظلمة، وشاهد بنفسه الصورة السلبية الزجاجية وهي تتشكل، قبل أن يقوم بتعويمها في الأحماض، ليظهر شكل آخر وبصورة عجيبة إلى جوار صورة ليفرمور، ليكتشف أنها زوجته المتوفاة!
كان ليفرمور متشككا ولكن عندما شاهد كل شيء بنفسه، ثم عندما شاهد روح زوجته تقف إلى جواره في الصورة دون أي تلاعب أو تدخل من موملر، أصبح من أكبر المدافعين عنه، وبات يؤكد في كل المحافل أنه الوحيد الذي يمتلك الدليل على صدق موملر وسلامة صوره الروحية.
الأرواح تقع في الفخ!
بعدما عادت شهرة موملر لتتوسع وتنتشر انطلاقا من نيويورك، قرر عمدة المدينة أوكي هول، مراقبة موملر، ومتابعة كل البلاغات والشكاوى التي تصل في حقه ودراستها.
كان من بين هذه الشكاوى، شكوى جماعية نشرها المحرر العلمي في صحيفة “وورلد” مايور هول، تلقاها من أعضاء قسم التصوير الفوتوغرافي في المعهد الأمريكي لمدينة نيويورك PSAI، وهو مجتمع من المصورين المشاهير المكرَّس لتطوير علم التصوير الفوتوغرافي.
قال المشتكون إن ما يفعله موملر من خداع، يفقد الجماهير الثقة في التصوير الفوتوغرافي الذي كان لايزال في عقوده الأولى، مطالبين بضرورة اتخاذ إجراء ضده للحفاظ على مهنة التصوير وهيبتها.
أمام هذه الشكوى، قرر عمدة نيويورك التحرك بشكل سري لكشف حقيقة موملر، وإنهاء الجدل الذي أثاره في مدينته.
في صباح يوم 16 مارس من عام 1869، توجه رجل يظهر عليه الثراء والهيبة إلى استوديو موملر في شارع برودواي، وقدم نفسه على أنه أحد النبلاء الراغبين في التقاط صورة روحية، وطلب أن تظهر في الصورة معه روح والد زوجته المتوفى، حتى يقدم الصورة إلى زوجته كتذكار يؤكد لها حسن العلاقة بينه وبين والدها الراحل.
بعدما أخذ موملر استعداداته وقام بالتقاط الصورة وحمضها وقدمها إلى الزبون، نظر إليها الرجل وعلى وجهه ابتسامة عريضة لم يجد لها موملر أي تفسير، قبل أن ينظر إليه الرجل ويقول له بكل ثقة ونشوى “مرحبا بك يا سيد موملر.. لقد وقعت في الفخ”!
“الروحانية في المحكمة”
لم يكن هذا النبيل المزيف سوى الضابط جوزيف توكر، مارشال مدينة نيويورك، والذي عمل في ذلك اليوم متخفيا بطلب من العمدة، لهدف وحيد، هو محاولة الإيقاع بموملر.
قال توكر لموملر، إن الروح المزعومة التي تظهر إلى جواره في الصورة لها ملامح مختلفة للغاية عن والد زوجته، قبل أن يفجر مفاجأة عقدت لسان موملر، وهي أن والد زوجته لايزال على قيد الحياة!
في 12 أبريل من العام ذاته، اعتقل رجال توكر المصور الفوتوغرافي موملر بتهمة “النصب على أشخاص ساذجين بما يسمى صور الأرواح”، وفي مفارقة غريبة، تم سجن أول مصور لأرواح الموتى خلال المحاكمة، في أكثر سجون نيويورك شهرة، “سجن المقابر”!
“الروحانية في المحكمة”، “الاحتيال العظيم”، “الاحتيال المزعوم لصور الأرواح”، هكذا اندفعت صحف نيويورك تكتب عن أنباء اعتقال موملر، وانطلقت عناوينها المثيرة مثل الأبواق، وسط متابعة غير مسبوقة، حيث قالت صحيفة نيويورك ديلي تريبيون “إن شدة الاهتمام الذي أبداه الجمهور بهذه القضية ربما لم يحدث مع أي تحقيق جنائي آخر في تاريخ مدينة نيويورك”.
في 21 أبريل، افتتح القاضي جوزيف داولينج جلسات المحاكمة الأولية، حيث كان عليه الاستماع إلى الادعاء ثم دفاع المتهم، ويقوم بالموازنة بين الأدلة، تمهيدا لاتخاذه قرار برفع القضية إلى هيئة المحلفين الكبرى إذا رأى أن الوقائع تبرر ذلك، أو إطلاق سراح المتهم حال عدم كفاية الأدلة.
كان الوسطاء الروحانيون أكثر المهتمين بهذه القضية، لذا فقد ملأوا قاعة المحكمة عن آخرها لمتابعة التفاصيل دعما لموملر، وكانت الصحف تفرد بشكل يومي تقارير عن جلسات القضية وتفاصيلها.
كان الادعاء والصحف على حد سواء، يرون أن موملر ليس المتهم الرئيسي في هذه القضية، بل المتهم هو “الحركة الروحانية الحديثة”، التي كان يسعون من خلال محاكمة موملر للقضاء عليها وتوعية الناس بزيفها.
الدفاع عن أرواح الموتى
استمتعت المحكمة لشهادة المارشال توكر، الذي روى تجربته في شراء صورة روحية من موملر كشفت خداعه، وكانت شهادته هي الشهادة الرئيسية التي اعتمد عليها الادعاء.
قام موملر بتعيين فريق من المحامين للدفاع عنه -التكاليف التي سيتكبدها موملر في القضية ستصل لاحقا إلى 3 آلاف دولار- كان على رأس هذا الفريق، محامي شرس يدعى “جون دي تاونسند”، كان الشهود الأوائل الذين اتصل بهم تاونسند من المصورين، وقد قام جميعهم سابقا بفحص دقيق لموملر أثناء أداء عمله في الاستوديو الخاص به، دون أن يمسكوا عليه أي خداع محتمل.
ثم استدعى تاونسند إلى المنصة مجموعة من زبائن موملر، شهدوا جميعا لصالح موملر وهم يمسكون بالصور الروحية التي التقطها لهم، مؤكدين أنها صور حقيقية وأن ما يظهر بها هي أشباح أقاربهم فعلا، فيما أدخلت المحكمة تلك الصور ضمن أحراز القضية.
تشارلز ليفرمور شهد أنها كانت زوجته بالفعل التي ظهرت بالصورة، وهو ما أكد عليه جميع أصدقائه الذين عرفوا زوجته، حيث قال في شهادته: “ذهبت إلى هناك وعيناي مفتوحتان، كنت متشككا، وكنت أحاول دائما التفوق عليه ومفاجئته، فقد حدد لي موعدا لجلسة التصوير يوم الثلاثاء، فذهبت له يوم الاثنين لإرباكه، ولإفساد أي ترتيب قد يكون استعد به، كنت أبحث طوال الوقت عن الحقيقة”.
القاضي جون إدموندز، وهو قاض سابق في المحكمة العليا بنيويورك، وكان أحد زبائن موملر، أذهل الحاضرين بشهادته بأنه لم يتمكن من رؤية الموتى في صور موملر فحسب، بل إنه تحدث معهم أيضا! وقال للمحكمة إنه مؤمن بصدق هذه الصور، لأن الأرواح كانت فيها “جميلة بشكل ساحر”.
كانت من أكثر الشهادات المؤثرة، شهادة السيدة لوثيرا ريفز، التي تعرفت على الروح في صورتها مؤكدة أنها صورة ابنها الذي فقدته صغيرا، وأوضحت أن ابنها عانى من نفس الانحناء في العمود الفقري، وهو نفس الوضع الذي ظهرت به الروح في الصور، معتبرة أن ذلك أكبر دليل على صدق الصور.
نتيجة هذه الشهادات، استطاع تاونسند أن يطعن في حجة الادعاء قائلا: “كيف يمكن اتهام موملر بخداع هؤلاء الأشخاص الذين أكدوا بما لا يدع مجالا للشك رؤيتهم لأحبائهم في صوره؟”.
مفاجآت شهود الإثبات
في هذه المرحلة، وجد الادعاء أنه لا يمكن الاعتماد على شهادة المارشال توكر وحده لإثبات تهمة الاحتيال بحق موملر، لذا استدعى شهودا يمقتون موملر ويرون أنه مخادع، وعلى رأسهم بعض المصورين.
شرح المصورون للمحكمة كيف يمكن استخدام تعريضات مزدوجة لتركيب صورتين مختلفتين على لوح واحد، وكيف يمكن تحقيق نفس التأثيرات الشبحية على الصور الفوتوغرافية من خلال حيل بسيطة يمكن إجراؤها أثناء التحميض في الغرفة المظلمة، كما تحدثوا عما يمكن أن تفعله العدسات الخادعة وغيرها من الأدوات التي اعتقدوا أن موملر استخدمها بالطبع لتنفيذ صوره المزيفة.
أحد المصورين الذين شهدوا ضد موملر، والذين اعتمدت عليهم المحكمة كخبراء، استعان بصورة ليفرمور التي ظهرت فيها روح زوجته، حيث قال إن الصورة تظهر ظلال ليفرمور في اتجاه، بينما تظهر ظلال روح زوجته المزعومة في اتجاه آخر، وهو تأثير لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مصدرين مختلفين للضوء، ما يعني أن الصورة مصنوعة من صورتين مختلفين تم تصوير كل منهما بشكل منفصل.
بعض شهود الإثبات، قالوا إنهم متأكدين من أن موملر كان يستخدم صور أشخاص أحياء ويضيفها إلى صور زبائنه على أنهم أرواح أقاربهم، مشيرين إلى أنهم صادفوا بعض هؤلاء الأرواح المزعومة تسير في شوارع مدينة بوسطن! بل إن بعض الأشخاص عملوا لصالح موملر بشكل دائم لتمثيل أدوار أكثر من روح وتركيب صورهم على صور الزبائن.
أصحاب الادعاء السابق، استندوا إلى أن إحدى تلك الأرواح المفترضة، ظهرت في أكثر من صورة لموملر، بعض هذه الصور التقط في بوسطن وبعضها الآخر في نيويورك، قبل أن يتبينوا لاحقا أن هذه الروح هي شخص لايزال على قيد الحياة!
المحكمة استدعت كذلك منظم العروض الشهير ب. ت. بارنوم كشاهد بناء على طلب الادعاء، حيث اعتبر خبيرا في الخدع والألعاب السحرية، كان بارنوم معروفا بانتقاده للوسطاء الروحانيين، وكان يتهمهم دائما بالاحتيال والكفر.
قال بارنوم أنه قبل بضع سنوات، اشترى مجموعة من الصور التي يطلق عليها صور روحية من موملر لعرضها في متحفه الذي كان يخصصه للغرائب والأشياء الخارقة للطبيعة، زاعما أنه أثناء عملية الشراء تبادل مجموعة رسائل مع موملر، اعترف فيها الأخير بأن صوره “مفبركة”، ولكن عندما سألته المحكمة عما إذا كان ما يزال يمتلك تلك الرسائل؟ أجاب أنها ضاعت عندما احترق متحفه في عام 1865.
من بين أهم ما قاله بارنوم أيضا، أن موملر كان يرسل من يقتحم منازل زبائنه ليسرق صور أقاربهم الموتى، ثم يقوم باستخدام هذه الصور وإضافة نسخ منها إلى صور الزبائن، ليوهمهم أنها صور أرواح أقاربهم المتوفين.
تاونسند من جانبه، هاجم بارنوم وقال إنه مشهور بين سكان نيويورك بأنه “محتال”، متهما إياه بالكذب بشأن قصة الرسائل المزعومة، مشيرا إلى أن الأشياء التي كان يعرضها بارنوم في متحفه للغرائب، مثل حورية البحر والحصان الخرافي، هي أكاذيب واحتيال أكبر من الاحتيال المتهم به موملر!
أما عن صورة إبراهام لينكولن، فقد قال بعض الشهود، إن ماري لينكولن توجهت إلى موملر بناء على نصحية من زوجته هانا، التي تعرفت إليها في إحدى حلقات الوساطة الروحية، حيث نصحتها هانا بأن رؤية روح زوجها معها في صورة واحدة سوف تحسن حالتها المزاجية والروحية، ما يعني أن موملر كان على علم بشخصية ماري لينكولن عندما جاءته لأول مرة، وأنه جهز صورة شخص شبيه بلينكولن لإضافتها إلى صورة زوجته وإيهاما أنها روح الرئيس السابق.
موملر يتحدث لأول مرة
بينما كانت تسير جلسات القضية في نقاشات حول الموتى والخداع والخيال والدين، كان موملر هادئا طوال المحاكمة، وغامضا لا يكشف عما يجول بخاطره أبدا، وبعد عدة جلسات، وفي 3 مايو من العام ذاته، وقف موملر ليخاطب المحكمة لأول مرة.
فوجئ الجمهور بعد كل هذه الشهادات ضد موملر، بأنه متماسك لم يضعف، ولم يعترف على نفسه، بل تمسك ببراءته بقوله “أؤكد بشكل قاطع أنني عندما التقطت هذه الصور، لم أستخدم أي خدعة أو أداة، ولم أرتكب أي خداع أو احتيال”.
في المرافعة الختامية، دافع تاونسند عن موملر، مؤكدا أن الادعاء ومن شهدوا ضده، كانوا سيشنقون العالم جالليو جاليلي لو أنه عاش في أيامهم، ملقيا خطابا شديد اللهجة ضد الادعاء وشهوده.
بينما اختتم الادعاء مرافعته بكلام كثير عن الهلوسة والأوهام والطبيعة الوثنية للروحانية وتزييف الأرواح، مؤكدا أنه لا يوجد دليل واحد قاطع على أن موملر استطاع تحضير هذه الأرواح بالفعل، مشيرا إلى أن دليله الوحيد أن بعض الأشخاص يعتقدون بوجودها ليس إلا.
في النهاية، أعلن القاضي قراره الذي أثار الكثير من الجدل، في بداية حديثه، أكد القاضي أنه يشارك الادعاء في الاعتقاد بأن موملر محتالا، إلا أنه مضطر لإطلاق سراحه لأن الادعاء لم يقدم أدلة كافية على ارتكاب موملر لهذا الاحتيال، وبالتالي لم يتم رفع القضية إلى هيئة المحلفين.
حاولت الصحف تفسير موقف القاضي العجيب الذي خالف كل التوقعات بإطلاقه سراح موملر، البعض قال إن القاضي أراد التخلص من الجدل التي أحدثته القضية وإنهاء هذا الحديث بإطلاق سراحه، بينما قال آخرون أن القاضي اتخذ موقفا عميقا وسطيا، لأنه يؤمن أن في المسائل الإيمانية، هناك أمور لا يمكن إدراكها، في كل الأحوال اعتبر الوسطاء الروحانيين خروج موملر بمثابة انتصار لحركتهم.
إتلاف الدليل الأخير
بالرغم من أن القضية وقرار إطلاق السراح قد أكسبا موملر قدرا أكبر من الشهرة، إلا أنه قرر مغادرة نيويورك فورا عقب انتهاء المحاكمة، بعدما أنفق آلاف الدولارات على فريق الدفاع الذي سعى لإثبات براءته، حيث عاد إلى بوسطن وافتتح استوديو آخر، ولكن هذه المرة في منزل والدة زوجته، وتحت ظروف غير مواتية.
في بوسطن واصل موملر مهنته الغريبة، حيث قام تصوير الزبائن إلى جوار الأرواح المزعومة، معتمدا على ثقة بعض أشهر زبائنه الذين ظلوا على إيمانهم بما يقوم به، مثل ماري لينكولن، والتي يعتقد أن صورتها التي التقطها موملر هي آخر صورة لها قبل وفاتها في عام 1882.
ولكن لم تكن رعاية السيدة الأولى السابقة أمرا كافيا لتحسن حظوظ موملر في بوسطن، حيث توفي في 16 مايو عام 1884 فقيرا مريضا بعدما خسر كل أمواله تقريبا، وقبلها سمعته.
ولكن من المفارقات، أن مهارة موملر كمصور ومبتكر في عالم الفوتوغرافية لم تكن تقل عن مهارته في الاحتيال والخداع، فقد مات وهو يملك العديد من براءات الاختراع لعدد من تقنيات التصوير الفوتوغرافي الرائعة، بما في ذلك التقنية التي تعرف حتى الآن باسم “عملية موملر”، التي ساعدت الناشرين بإعادة إنتاج الرسوم التوضيحية الفوتوغرافية مباشرة في الصحف والكتب والمطبوعات الورقية.
لذا فإن النعي الذي نشر عنه في الصحف بعد وفاته، ركز على مساهماته الفوتوغرافية بشكل عام، مع إشارة بسيطة على استحياء في نهاية النعي قالت “اكتسب المتوفى في وقت ما شهرة كبيرة بسب الصور الروحية”.
ولكن على الرغم من كل هذه الأحداث، ظل موملر حتى لحظاته الأخيرة مصرا على أنه كان مجرد “أداة متواضعة” للكشف عن “حقيقة جميلة”، وأنه لم يلجأ للاحتيال أبدا، ولكن هذا أمر لم يعد من الممكن التأكد من صحته بشكل قاطع، لأن موملر قرر تدمير كل سلبيات صوره قبل وفاته بوقت قصير، ليقضي على آخر دليل كان يمكن أن يكشف مدى صدقه من عدمه.
اليوم ينظر إلى صور موملر بوصفها “صور مفبركة”، وأن ملتقطها استخدم تقنيات بدائية ليظهر شكلين على الصورة الفوتوغرافية الواحدة، أحدها واضح والآخر شاحب، ليظهر وكأن روح ما تقف إلى جوار شخص لايزال على قيد الحياة، فيما يشير الخبراء إلى أن روح ابنة عم موملر التي اعتبرت “أول صورة روحية” وكانت سببا في ظهور كل تلك الموجة من الصور المفبركة، لم تكن سوى بقايا سلبي سابق تم التقاطه على نفس اللوح الزجاجي لصورة لموملر.
في الأخير، يبقى أن نشير إلى أن بعض المتشككين في موملر، ممن لم يتبنوا موقفا واضحا منه، سواء بتصديقه أو اتهامه بالاحتيال، قالوا إن الدليل الأكبر على صدق موملر سوف يتجسد بعد وفاته، فلو كان من الممكن حقا تصوير أرواح الأموات، فإن روح موملر سوف تعود عبر الكثير من الصور الفوتوغرافية لإثبات براءة صاحبها، إلا أن ذلك لم يحدث أبدا.. ولم تظهر روح موملر في أي صورة فوتوغرافية بعد وفاته.. وهو أمر لم يستطع أنصار موملر تفسيره؛ ربما لأن روح “مصور الأرواح” لم تكن تحب الفوتوغرافيا!
——————