من منا لم يتمنى أن يلتقي ولو صدفة بنجيب محفوظ؟ وكم ممن تمنوا لم يحالفهم الحظ ولم يجدوا الفرصة؟ لكن العجيب أنها أتت لمن لم يفكر مطلقا فيها ومن لم يقرأ حتى ولو كتابا واحدا لأديب نوبل!
منذ عام وأنا أحاول أن أخرج الدكتور “محمود علي” استشاري العلاج الطبيعي لنجيب محفوظ عن صمته، لكن الرجل يخاف من الصحافة، لا تشغله الأضواء، لم يقرأ لنجيب، ولا أدري هل طبيعة مهنته هي ما أجبرته على التعامل مع أديب نوبل على أنه حالة صحية ليس أكثر؟ أم أن الطبيب لم يدرك قيمة اللحظة بل الساعة التي يقضيها أسبوعيا في حضرة نجيب محفوظ؟
ورغم تحفظ الطبيب المبالغ فيه، خصوصا بعد أن علمت أن في داخل أسرته صحفي ثقافي لم يستطع حتى الآن أن يخرجه أيضا عن صمته، ورغم تأجيلاته الكثيرة وتسويفه أحيانا وانشغاله في أحيان أخرى، نجحنا في أن يتحدث -للمرأة الأولى في حياته- استشاري العلاج الطبيعي لمحفوظ للصحافة عبر “عرب لايت”، الصحافة التي رفض الحديث معها أحيانا وتجاهلته هي في أحيان أكثر، على اعتبار أنه الطبيب الاستشاري الثالث لنجيب، وقد تحدث الأول والثاني، لكن لو كان لنجيب استشاري عاشر لبحثنا عنه!
بدأت علاقة الطبيب محمود علي بنجيب محفوظ وهو بعد لم يتجاوز عامه السادس والعشرين من عمره وتحديدا في بداية العام 2004، يقول محمود: “كنت باعمله زيارة منزلية بواقع مرة أسبوعيا بالتبادل مع زملائي، دكتور حسن هو من كان يتعامل معه أولا ودكتور مدحت ثانيا ثم استلمت أنا الحالة منهم، وحتى آخر أربعة أيام والأستاذ في الرعاية الصحية كنت أنا من يتولى الحالة، وصادف أنه انتقل إلى جوار ربه فى وقت إجازتي الأسبوعية”.
كان السؤال الذي يشغلني: ما الذي يشعر به الشاب الذي سيمهله القدر فرصة أن يزور نجيب محفوظ لمدة ساعة كاملة في كل أسبوع، ذهب الشاب إلى المنزل رقم 172 بشارع النيل بالعجوزة وتحديدا بجوار مستشفى الشرطة، حيث التقى بأديب نوبل للمرة الأولى.
يقول الطبيب: “طبعا كنت عارف إنه كاتب كبير وحصل علي جائزة نوبل أواخر الثمانينات عن رواية أولاد حارتنا”، بدى لي واضحا أن الدكتور الشاب لا يقرأ لا لنجيب ولا لغيره، من المؤسف أن يعطيك القدر ما لا تدرك أهميته إلا بعد أن يرحل، لكن محمود علي لم يدرك هذه المنحة الإلهية التي تسمى القدر حتى بعد أن رحل محفوظ، وهذا ما بدا واضحا في حديثه: “للأسف وقتي لا يسمح بالمواظبة على القراءة، لكن أعمال نجيب محفوظ الفنية خالدة وأتابعها باستمرار تلفزيونيا”، ويؤكد أنه “كان ليا الشرف طبعا وشعرت بالفخر حتى اللحظة”.
يصف “علي” العلاج الطبيعي لنجيب بأنه “في صورة تمرينات علاجية واستخدام بعض وسائل التنبيه الكهربي للمساعدة على تقوية العلاج”، أما عن شخص نجيب محفوظ فيصفه بأنه كان “لذيذ وخفيف الظل في ردة فعله، ودائم الاستجابة للأوامر، ولا تشعر أنه رجل في سن الخامسة والتسعين من العمر، كان لماحا وذكيا ويعرف المطلوب منه في الجلسة ويعمل قدر الإمكان” ويضيف: “كان بسيط جدا ولا هالة ولا حاجة، قمة الهدوء والسكينة” فيما يختتم وصفه بقوله: “من الآخر كنت بابقى مستمتع وأنا معاه فى الجلسة”.
القدر جعل الدكتور الشاب يلتقي مصادفة أيضا بالفنان الكوميدي الرائع فؤاد خليل، وبمناسبة الكوميديا يحكي محمود علي موقفا دار أمام عينيه لنجيب محفوظ أثناء إقامته في المستشفى قبل وفاته بفترة قصيرة، فيقول: “كان هناك مرور دائم من إدارة المستشفي لتفقد سير العمل وأغلبهم أصحاب مناصب كبيرة، وحدث ذات مرة أنهم عند مرورهم بغرفة أستاذ نجيب ابتسم لهم وقال: كده فاضل صدام حسين يدخل عليا!”.
لم يبتعد نجيب محفوظ عن الأوضاع السياسية والاجتماعية التى تمر بها المنطقة العربية أبدا، هكذا يؤكد محمود علي “كان دائما مشغول بأحوال مصر والعرب وبيسأل فى شدة تعبه عن أحوال لبنان اللي كانت بتتعرض للقصف أيامها لأنه كان قليل الكلام جدا وكان بيتعامل معايا على قدر الجلسة”.
يقول استشاري العلاج الطبيعي إن أكثر المترددين على أديب نوبل كان “الكاتب محمد سلماوي بس أنا ماتعرفتش بيه غير فى المستشفى مرة واحدة بس”، أمر متوقع أن يكون سلماوي هو أكثر المترددين على محفوظ لكن الطبيب يؤكد أن الكاتب الكبير محمد سلماوي انتقده في إحدى المرات! فسألته: هل تتذكر ما قاله أو سبب هجومه فأجاب “”كان واقف أثناء عملي مع الأستاذ نجيب ولم أعرف شخصيته، فطلبت منه أن يستريح ليس إلا، عندما طلب مني أن أتعامل برفق مع الأستاذ نجيب محفوظ رحمه الله، لأني بلغته إن ده فى مصلحته، ولكن كان له رد فعل لم أعلم به إلا بعد وفاة كاتبنا الكبير”، ويتابع بقوله: “ببساطة سألته: هل حضرتك من الفريق الطبي؟ قال لا، قلت له إذن استرح، هذا كل ما حدث”.
يواصل محمود علي ما حدث بعد ذلك وكيف كان رد فعله فقال: “اتبلغت من زملائي، إن الأستاذ محمد سلماوي كتب أني كنت أتعامل بكل عنف مع الأستاذ، ساعتها تراجع للخلف بناء على كلامي ليس إلا، وبمنتهى الهدوء، كان كلامه من منطلق خوفه على الكاتب الكبير، لذلك ضحكت فى الأول لما عرفت الموقف لكن اعتبرته موقف بسيط وعدى”.
لكن لا يبدو الدكتور محمود علي صريحا تماما في أنه يتعامل مع الأمر على أنه “موقف بسيط وعدى”، ببساطة لأنه لم يتحدث أبدا مع الصحافة ببسب ذلك الموقف وظل على مدار أكثر من خمسة عشر عاما صامتا تماما رغم محاولات بعض الزملاء الصحفيين معه، وربما لهذا السبب لم تظهر له صورة واحدة مع نجيب محفوظ وإذا سألته يقول لك “لا توجد صورة تجمعا” أو يداعبك ضاحكا “للأسف السيلفي كان لسه ما اشتغل علي نطاق واسع أيامه”.
لم تكن مداعبة فقط، إنما مراوغة أيضا، فلا أظن أن أحدا يلتقي مع نجيب محفوظ ساعة كاملة مرة كل أسبوع لمدة تقترب من ثلاثة أعوام ولا يلتقط ولو صورة واحدة مع أديب نوبل! لكنه ما يزال يريد أن يبتعد عن الأضواء ويرفض البوح الكامل ويحتفظ بالكثير من الأسرار معه، لكن “عرب لايت” نجحت في إخراجه عن صمته ولو إلى حين.