منذ عدة أسابيع كانت محركات البحث في دولة الأردن الشقيقة تدور كلها في فلك ما أثارته الكاتبة الأردنية “زليخة أبو ريشة”، من خلال منشور لها طالبت فيه ببث آذان العشاء بصوت كوكب الشرق أم كلثوم!

قالت زليخة أبو ريشة عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: “لا أمل الاستماع إلى الآذان، إذا كان الصوت شجيا، ولكن هذا الصوت المعلب الذي تبثه وزارة الأوقاف، لا يُذكر بصلاة، ولا يهيئ لخشوع، أطربوا القلوب بما يشجي، ولا تنفروا ما وسعكم التنفير، هاتوا لنا آذان محمد رفعت فجرا، وعبد الباسط ظهرا، والمنشاوي عصرا، ومصطفى إسماعيل مغربا” إلى هنا كان يمكن لما كتبته “زليخة” أن يمر وسط أحداث السوشيال ميديا التي لا تتوقف عن الضخ، لكنها أكملت: “وأم كلثوم عشاء، لعل الذائقة ترتقي، والجمال يصبح برهانا على صدق الحال”.

منشور الكاتبة الأردنية زليخة أبو ريشة
منشور الكاتبة الأردنية زليخة أبو ريشة

هنا بالتحديد توقف دوران السوشيال ميديا واتجه كله إلى ما كتبته زليخة وسط حالة جدل واختلاف كبير، مع سيل من التعليقات التي وصلت حد التجريح وتوجيه الإساءات للكاتبة الأردنية، وبدأ الكثيرون في البحث عن الآذان بصوت أم كلثوم، للدرجة التي جعلت BBC تذيع تقريرا في برنامجها “ترندينغ” يتخلله آذانا قالوا إنه للسيدة أم كلثوم وإنهم حصلوا عليه من مقطع تراثي قديم.

ثمة تشابه بين المقطع التي أذاعته BBC وبين مقطع موجود في أغنية “الثلاثية المقدسة” لكوكب الشرق، على الفور استمعت إليها ووجدت بالفعل تشابها كبيرا بين ما أذاعته BBC وبين صوت الكورال في ثلاثية أم كلثوم، تحديدا في الدقيقة 8:24، صوت امتد لاثنتي عشرة ثانية، نفس الثواني التي جاءت في التقرير المذاع.

اتصلت على الفور بالدكتور عصمت النمر مؤسس راديو فون ومنتدى سماعي للطرب الأصيل، فقام بوضع التقرير وأغنية “الثلاثية المقدسة” على جروب سميعة أم كلثوم -الذين استضافتهم من قبل المذيعة منى الشاذلي في برنامجها “معكم” وأبرزهم د. محمد الباز أستاذ طب الأطفال في كلية الطب بجامعة القاهرة وأحد أشهر سميعة أم كلثوم في مصر- الذين نفوا تماما وبالإجماع أن يكون هذا الآذان بصوت أم كلثوم بل ورجحوا أن يكون الصوت لرجل!

من المؤكد أن الآذان بصوت أم كلثوم لن يرتفع في العشاء كما كانت الكاتبة الأردنية تتمنى، ببساطة لأننا لم نعثر عليه حتى الآن، ولا ندرى حتى هل سجلته كوكب الشرق أم لا؟ لتبقى أم كلثوم بيننا، تطرح المزيد من الأسئلة لا بأغنياتها فقط بل بحياتها.

الحديث عن تسجيلها للآذان يقودنا إلى الحديث عن تسجيلها لآيات من القرآن الكريم، فبحسب ما كتبه الكاتب الصحفي عمر طاهر بمجلة الجيل -في عددها الصادر 10 يناير 1999- اتفقت السيدة أم كلثوم مع الملحن زكريا أحمد قبل وفاته أن يقوم بتلحين أجزاء من القرآن لها حتى تقدمها في شرائط وأسطوانات لكن القدر لم يمهله، ومع سطوع نجم النقشبندي عاودها الحنين واتفقا على أن يكررا التجربة بشكل مختلف وليكن رواية السيرة النبوية غناء.

وفي حوار صحفي للكاتب الكبير أنيس منصور مع الموسيقار رياض السنباطي، أعادت صحيفة “الأهرام” نشره في عددها الصادر يوم الجمعة 2 نوفمبر 2018، الحوار أجري في عام 1975 -العام ذاته الذي رحلت فيه كوكب الشرق، أي قبل 46 عاما من الآن- تحدث السنباطي فيه عن محاولة تلحين القرآن للسيدة أم كلثوم وحلمهما بتلحين سورة “الرحمن” فيقول السنباطي لأنيس منصور: “… وكان من أحلامنا أن ألحن وتغني سورة (الرحمن) إن هذه السورة فى جمالها وعمقها هى القرآن كله وقد حاولت شيئا من ذلك ولكن خفت.. فى ثلاثية صالح جودت غنت أم كلثوم آية من القرآن وغيرنا فيها حتى لا تبدو على أنها آية وهى (والضحى والليل ما سجى) ولم نقل (إذا سجى).. حتى لا يقال إننى ألحن القرآن وإنما هى محاولة من بعيد، يرحمها الله”.

قبل حوار السنباطي بخمس سنوات، في عام 1970 بمجلة “الهلال”، كتب ضياء الدين بيبرس تحقيقا صحفيا كان عنوانه “تلحين القرآن بين أهل الفن ورجال الدين” تحدثت فيه السيدة أم كلثوم عن رأيها في تلحين القرآن وقالت: “الحديث عن تلحين القرآن باب يحسن إغلاقه، ومسألة من الأفضل عدم الخوض فى تفاصيلها، فالمشكلة ببساطة هي هل الموسيقى تخدم القرآن؟ أم أن القرآن هو الذي يخدم الموسيقى؟” وترى أم كلثوم أن القرآن أكبر من الموسيقى، وأن موسيقاه النورانية المتمثلة في تلاوته كما أمر الله وسنة رسوله ﷺ بها كافية لبث الهيبة فى نفوس المسلمين.

سبق ذلك، وتحديدا في عام 1945، أن قرأت أم كلثوم في فيلم “سلامة” ما تيسر من سورة إبراهيم -عليه السلام- الآيات من 38-41، كانت هذه القراءة بمثابة مفاجأة لاقت استحسانا كبيرا، وسارع البعض بتسجيلها، وألح على الكثيرين تساؤل: هل سنسمع القرآن بصوت أم كلثوم أم لا؟

بعد سنوات وتحديدا في نهاية الخمسينات، طبقا لما كتبه الكاتب الصحفي أسامة المنسي في مجلة روزاليوسف 22 يناير 2000، التقت أم كلثوم بصديقها مصطفى أمين لتطلب منه الرأى والمشورة لتنفيذ مشروعها الذي وصفته بأنه “أمنية حياتها”، وعبرت له عن رغبتها في تسجيل القرآن بصوتها على أسطوانات، وقدر الخبراء وقتها أن هذه العملية ستدر ربحا سنويا قدره مليون جنيه، واقترح عليها مصطفى أمين أن تخصص المبلغ لطلبة الجامعة ومساعدتهم فوافقت.

وبالفعل ذهبت كوكب الشرق بصحبة مصطفى أمين إلى مكتب نجيب الهلالي الذي كان محاميا في ذلك الوقت وكتبت تنازلا عن العائد لصالح الطلاب، لكن الغريب أن المشروع توقف فجأة، والسبب أن كوكب الشرق لم تحصل على موافقة الأزهر مع أنها سبق أن قرأت بعض آيات الذكر الحكيم في فيلم “سلامة” قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات!

وعلى الرغم من توقف المشروع بعد بدايته فإن رجال الدين وقراءنا العظام عبروا عن آراءهم الشخصية والفقهية في تسجيل أم كلثوم للقرآن، ورغم معارضة البعض فإن المعارضة كانت لأسباب فنية ولا علاقة لها بما قد يستغله البعض للتدليل على أن تسجيل أم كلثوم للقرآن حرام من باب أن صوت المرأة عورة.

https://www.youtube.com/watch?v=QL3dElQkS

الغريب أنه وبالرغم من عدم موافقة الأزهر، إلا أن الشيخ حسن مأمون الهضيبي، مفتي الديار المصرية حينها، أعلن موافقته على المشروع وقال: “إن فقهاء المسلمين بحثوا مسألة صوت المرأة، والراجح فى مذهب الإمام أبي حنيفة أن صوت المرأة ليس بعورة، والشريعة الإسلامية لم تفرق في تكاليفها بين الرجال والنساء، فإذا قرأت المرأة القرآن بصوتها وحافظت على قواعد القراءة والتزمت حدودها ولم تدخل فيه شيئا من الغناء كان ذلك جائزا ولا شيء فيه”.

وافقه في ذلك الشيخ سيد سابق موضحا أن “الفقهاء رأوا أن آذان المرأة مكروه شرعا، ولكن قراءتها للقرآن مالم يكن فيها تطييب وخضوع بالقول فلا مانع منها، إن كل ما تنهى عنه المرأة هو ما ذكره القرآن الكريم (ولا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا) والخضوع بالقول هو التثني في الحديث”.

كان موقف الشيخ الغزالي هو نفس موقف الشيخين السابقين مؤكدا أنه: “لا مانع شرعا من أن تتلو المرأة القرآن مجودة تتفق مع أصول الترتيل التى دونها علماء القراءة، وكل ما يلاحظ في حديث المرأة أو قراءتها هو ألا يكون في أنغامها لحن متكسر يخرج بالكلام عن طبيعته الجادة، وهذه الملاحظة يجب ألا تفوت الرجل”.

أما الشيخ مصطفى إسماعيل الدارس لعلم القراءات القرأنية والمقامات الموسيقية العربية وعازف العود والبيانو ولاعب الشطرنج فقال: “أنا شخصيا لا أرى مانعا من أن تقوم أم كلثوم بتسجيل أيات الذكر الحكيم كلها وقراءتها”.

فيما جاء رأي الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي الملقب بـ”مصور معاني القرآن” كتالي: “سأبحث مشروع قيام أم كلثوم بتسجيل القرآن من الناحية الشرعية والشيء الذي يوافق عليه الشرع سأوافق عليه، ومن جهة صوت المرأة عورة سأبحث ذلك أيضا من هذه الناحية المهمة”.

“الصوت الحالم” الذي كان يرتجف خشوعا عندما يقرأ كلام الله، الشيخ عبد الباسط عبد الصمد قال: “أرى أن يستشار العلماء الأفاضل في المسألة ولكن بالنسبة لرأيى الشخصي فمع احترامي للسيدة أم كلثوم التي لا يسمو على صوتها أي صوت أعتقد أنه لا مانع من أن نقول: إن لقراءة القرآن الكريم أحكاما، وخاصة أن هذه الأحكام لم ولن تتوافر لأم كلثوم.. لذلك فأنا أعتقد أنه من الأفضل لها ألا تقدم على تنفيذ هذا المشروع”.

وعلى اختلاف الأراء وتنوعها، وقف الأزهر حائلا بين أم كلثوم وتسجيلها للقرآن الكريم، وربما هذا ما جعلها تتخلى عن المشروع الذي وصفته بأنه “أمنية حياتها” وتفكر مع سطوع نجم النقشبندي على أن تكرر التجربة بشكل مختلف في سبعينيات القرن الماضي وليكن رواية تاريخ الرسول غناء لكن القدر لم يملها الوقت لتفيذه، لترحل أم كلثوم تاركة وراءها حلم مفقود “رواية تاريخ الرسول غناء”، ومشروع لم يكتمل “تسجيل القرآن الكريم”، وسؤالا عالقا لا نستطيع الجزم بإحدى إجابتيه “هل سجلت الآذان أم لا؟”.