التاريخ الغائب والمفقود كان شغله الشاغل.
يقول شادي “إن الناس الذين نراهم في الشوارع والبيوت والمصانع والمزارع هؤلاء الناس لهم تاريخ؛ فقد ساهموا يوما في تشكيل وصنع الحياة البشرية بمجملها، كيف تعيدهم ليقوموا بنفس الدور؟ وكيف نستعيد مساهمتهم الإيجابية والقوية في صنع الحياة؟ لابد أولا أن يعرفوا من هم، وماذا كانوا، وماذا قدموا، لابد أن تصل بين إنسان الواقع وإنسان التاريخ لتحقق تقدم ورقي إنسان الغد، وهذه هي قضيتي”.
شادى عبد السلام، ولد بالمنيا في مارس 1930 لأسرة عريقة، انتقلت لاحقا للإقامة في الإسكندرية، تخرج من فيكتوريا كوليدج سنة 1948 وسافر إلى لندن لدراسة التاريخ والفلسفة، وبناءا على ترشيح أساتذته بدأ بدراسة المسرح.
رجع شادى من لندن والتحق بكلية الفنون الجميلة لدراسة العمارة، وكان معروفا في وسط مجتمع الجامعة بأنه يشبه نبلاء القرون الوسطى، وتتلمذ على يد حسن بك فتحي والمهندس رمسيس ويصا واصف، حتى تخرج بتفوق عام 1955.
بداية شغف شادي بالتاريخ بدأت مبكرا من خلال زيارات العائلة للأقصر وأسوان بالإجازات، فقد كان يقف وحيدا متأملا جدران هذه المعابد في وجل كبير، أكبر من عمر طفل في الثامنة.
يحكى ناجى عبد السلام شقيق شادي أنه كان قليل الكلام ومتأمل لكل شئ.
كانت بداية علاقته بالسينما عندما تعرض لعقاب من جدته هو وشقيقه بحرمانهم من المصروف والذي كان ينفقه شادي غالبا على الذهاب إلى السينما يومى الخميس أو السبت، ونتيجة هذا العقاب قرر شادي إخراج أول فيلم في حياته وهو لا يزال في الرابعة عشر من عمره، كحل للكسب المادي عن طريق بيع تذاكر الفيلم للعائلة، فلا تنقطع عادته بفسحته الأسبوعية بفضل أرباح مشروعه السينمائى المبكر.
وكان أول أفلام شادي عبد السلام وهو صغيرا هاويا راغبا في السينما، عن الملكة المصرية حتشبسوت.
كبر شاد، وبعد رحلة دراسته داخل وخارج مصر، قرر خوض مجال العمل السينمائي فعليا، ولجأ للمخرج الكبير صلاح أبو سيف الذي نصحه بالعمل معه كمساعد له، حيث أن مجرد التواجد ومعايشته لأجواء العمل ستكون مفتاحه لدخول الوسط السينمائي.
في ذلك الوقت كان أبو سيف يحضّر لفيلم “الفتوة” عام 1957، فقام شادي بمعاينة أماكن التصوير في سوق روض الفرج وأخذ لقطات فوتوغرافية لها، ليتفاجأ أبو سيف بعين مختلفة تحمل الكاميرا وتسجل لقطات حية للأماكن والأشخاص.
من هنا بدأ شادي طريق السينما كمساعد مخرج لصلاح أبو سيف في أفلام الوسادة الخالية 1957، الطريق المسدود 1958، أنا حرة 1959، إلى أن نفذ أول ديكور له في أغنية حبك نار من فيلم حكاية حب عام 1959 لحلمى حليم، وبعدها توالت أعمال شادي كمهندس ديكور ومصمم مناظر ومصمم ملابس ومنسق ألوان في عدد كبير من كلاسيكيات الأفلام المصرية.
من أبرز تلك الأفلام: الرجل الثاني 1959، عنتر ابن شداد 1961، وا إسلاماه 1961، ألمظ وعبده الحامولي 1962، شفيقة القبطية 1962، بين القصرين 1962، عروس النيل 1963، رابعة العدوية 1963، الناصر صلاح الدين 1963، أمير الدهاء 1964، السمان والخريف 1967، أضواء المدينة 1979.
كان شادي يتمتع بدقة متناهية حتى إنه يلتقط بعينيه في مشهد خارجي به مجاميع بالعشرات في أمير الدهاء واحدا من الكومبارس يرتدي مشلح غير متناسق مع بقية ألوان المشهد، فيطلب من المخرج الكبير بركات أن يوقف التصوير ليخرجه من الكادر، وهو ما يكشف أن شادي كان يدرس كل تفصيلة بالصورة، مهما كانت صغيرة أو غير مرئية، لكن تلك لدقة هي ما تصنع صورة شادي البالغة الجمال بالنهاية.
عندما كان يقوم بتصميم ملابس أي شخصية كان يرسم شخص الممثل نفسه بهيئته، فمثلا عندما يرسم أزياء شخصية (شجرة الدر) في فيلم “وا إسلاماه” كان يرسم تحية كاريوكا بشخصها بهيئتها، ويرسم كل تفصيلة في الزي دون أن يترك أي مجال لمنفذ القطعة لأن يضيف أو نيقص أو حتى يفكر مرتين في تنفيذ التصميم حتى يتم ارتداؤه مطابقا لاسكتش شادي، ناطقا على جسد من يرتديه.
الكادرات عند شادي في الأفلام التاريخية
لو تكلمنا عن الجدران وتفاصيل زخارفها: جبس منقوش، تطعيمات بالرخام، نقوش إسلامية، تفاصيل درج السلم وأسفل الحوائط والأسوار، ومع كل هذا الثراء لا يوجد إسراف ولا تكاد تشعر بالزحام.
فقاعة العرش في “وا إسلاماه” كانت من أضخم الديكورات التى بنيت في السينما ناهيك عن جمال تفاصيلها التي تكاد تضاهي قاعة عرش حقيقية، الأرضيات عادة لا يلتفت إليها في ديكورات أي عمل، لكنها عند شادي كانت بمثابة لوحة مدروسة تم توزيع الألوان عليها في تناسق.
أرضيات “وا إسلاماه” كلها مشغولة بالخامات المتاحة في وقتها، حيث ظهرت على الشاشة من أروع ما يكون وكانت النتيجة إنتاج عمل يصعب أن تكتشف إن كان ديكور أم حقيقة.
في رابعة العدوية بنى ساحة بأكملها وكانت نقطة الجذب الرئيسية بها جامع مستوحى من عمارة سمرقند بقبابها المشهورة، وواجهة الجامع مدروسة لأقصى درجة.
لم يكتف بالقباب في الجامع حتى لا ينفصل عن محيطه فقام بتكرار القبة للحفاظ على وحدة المشهد الجمالية.
التفكير المسبق والدقة المتناهية في التنفيذ، اللذان يصلان لدرجة الإتقان فيصل لدرجة عالية من الإقناع عند المشاهد وخلق حالة معايشة وتصديق للصورة السينمائية عند شادي وكأنه عاش في أزمنة هذه الزخارف حتى يخرجها بالشكل الحي الذي ظهرت عليه أعماله التاريخية (الإسلامية، المملوكية).
لقد كان شادي مليئا بالإبداع: الكمال بالنسبة للعمارة، اتساق الألوان، واتزان النسب، فنية جمال الزخارف والإكسسوارات، وهو ما دفع يوسف شاهين إلى القول بأن “شغل شادي في تصميم ملابس وتنسيق ألوان الناصر صلاح الدين أفضل ما في العمل، أجمل من شغلي أنا كمخرج”، واللافت أن مجموع الأعمال التاريخية التى عمل بها شادي لم تكن لها رؤية خاصة أو قضية بعينها لم تكن أفلام عظيمة (دراميا) كذلك لم تكن رديئة لكن تصميمات شادي أضافت قيمة فنية عالية ممتعة للمشاهد لدرجة القول أنها القيمة الأكيدة الباقية منها.
عندما أراد روسيلليني إنتاج وثائقي عن الحضارة للتليفزيون الإيطالي في منتصف الستينات توجه إلى مصر وطلب مساعدين له، فتعرف على يوسف شاهين وشادي عبد السلام، وعندما شاهد أعمالهما قال إن شادي صاحب أيدي وعيون مثقفة.
وسافر شادي وشارك في تصميم ملابس وإكسسوارات فيلم كليوباترا عام 1963، لجوزيف مانكيفيتس، وديكورات الفيلم البولندي (الفرعون) لكافليروفيتش عام 1966.
تحفة “المومياء”
عن قصة اكتشاف مخبأ المومياوات بالدير البحري (1881)
يقول شادي “المومياء ليس أكثر من أربعة وعشرين ساعة تمثل لحظة وعي وضمير لم ينضج بعد عام 1881 أي قبل عام من الاحتلال البريطاني لمصر”.
بدأت علاقة شادي بفيلم “المومياء” عندما يقرأ قصة الخبيئة أثناء تصوير الفيلم البولندي “فرعون” مما زاد عنده الحنين لمصر، وقرر كتابة سيناريو لتلك القصة دون العزم على تحويله إلى فيلم.
بعد رجوعه لمصر، كانت خطواته في السينما العالمية ثابتة بعد فيلمي “كليوباترا” و”فرعون” ما جعله الأعلى أجرا بين مهندسي الديكور، إلا أن فكرة فيلم “المومياء” كانت قد اكتملت في ذهنه، فأعاد العمل على السيناريو، وقرر ترك العمل بتصميم الديكورات والتفرغ لفيلمه.
كان شادي يرى أن مجهوده في تصميم الديكورات لا يظهر على الشاشة بالشكل اللائق، لذا قرر أن يكون صانع العمل وليس مجرد أحد صناعه، وهكذا استغرق خمس سنوات من العمل على فيلم “المومياء” استنزفته ماديا حتى خرج الفيلم أخيرا إلى النور.
فيلم ليس له منتج!
عندام حضر المخرج روسيلليني إلى مصر، استضافه وزير الثقافة حينها ثروت عكاشة رسمى لإنتاج مجموعة أفلام عن الحضارة، وكان شادي من ضمن فريق عمله، وعرض عليه قراءة سيناريو المومياء وتحمس له جدا روسيلليني وطلب من ثروت عكاشة قراءته وإنتاجه وبالفعل قرأه عكاشة وطلب وضعه على قائمة خطة الإنتاج، ولكن حدثت النكسة وسافر روسيلليني، فأحس شادي بأن فرصة الفيلم في الظهور قد ضاعت.
ذهب شادى لرئيس الرقابة وقتها مصطفى درويش، على أمل الحصول على تصريح يسمح له بتصوير ولو مشهد واحد ليوضع الفيلم على خطة الإنتاج بموجبه.
وحسب شهادة مصطفى درويش، تلقى مكالمة تليفونية من رئيس مؤسسة السينما بألا يجيز السيناريو، وحين سأله درويش عن السبب قيل له “دا فيلم متفزلك وهايخسر المؤسسة وهى أصلا خسرانة واحنا مش ناقصين”.
رد درويش على هذا التوجيه، بأن المنع يكون لسببين: إما أن المصنف ضد توجه الدولة، أو ضد الآداب العامة، وبالتالي لن يتخذ قرارا نهائيا بشأنه قبل قراءته للسيناريو، ولكن بعدها بيومين جاءت مكالمة ثانية بصيغة أكثر حزما من الأولى، تطلب من درويش عدم إجازة السيناريو لأنه “ضد القومية العربية”، فوضع درويش السماعة وأجاز السيناريو!
فيلم عن مصر لم يشاهده المصريون!
قبل الخامس من يونيو 1967 كان قد انتهى من كتابة السيناريو الذى بدأ كقصيدة شعرية من أربعين سطرا كتبها سنة 1965 باسم “دفنوه مرة ثانية” وفي سنة 1968 بدء التصوير مع أصدقاء العمر وشركاء العمل صلاح مرعي، عبد العزيز فهي، وأنسي أبو سيف.
انتهى الفيلم في عام 1969 وتردد المسؤولون في عرضه لأنه غير جماهيري بمعايير السوق، ورغم ذلك جال الفيلم العالم وحصد جوائز من العديد من مهرجانات السينما المهمة.
وتصادف أن يقرر يوسف السباعي عرض الفيلم في مصر عام 1974 بعد ما شاهده في طوكيو، وقال إنه عمل فني متكامل يصل بالفيلم المصري المستوى العالمي.
المومياء فيلم سينما كما ينبغي أن تكون السينما، الصورة هي البطل الأول فيه، لو أوقفنا العرض وثبتنا الرؤية لأي لقطة سنشاهد لوحة مرسومة فائقة الجمال.
في بداية الفيلم ولقطات مشهد جنازة الأب بأكملها أبيض وأسود، كل القبيلة ترتدي اللون الأسود مقابل اللون الفاتح للجبل، وبدون حوار (مشهد صامت) وبدون معرفة سابقة بمدى علاقة ونيس بالأب الذي لم نراه، وبالتالي لم نعرف مشاعره تجاه أبيه إلا من خلال اللحظة التى تصور وجه الابن ورأسه ينحني حزنا على قبر أبيه فنرى الأرض من وجهة نظره مغطاة بالبنفسجي وهو لون الورد المفروش على القبر.
عندما قرر شادي عمل “المومياء” لجأ لعلاء الديب لكتابة حوار أشبه بالشعر، مزج روح الأديب بالنص أضاف بعد ثاني للفيلم، مونولوجات ونيس مع نفسه شديدة العذوبة، ديالوج الأم والأبناء بعد الجنازة في منتهى البلاغة.
“كفى.. ملعونة حقيقتك وملعون أنت.. لأنك أقلقت من انتهى وارتاح، الآن لن يعرف الراحة أبدا، اغرب عن وجهي أيها التعس، إني لا أعرف اسما لك”.
“اعطني اسمي في البيت الكبير وأعد إلي الذاكرة يوم أن تُحصى السنين” البردية التي تقرأ على الميت وتعيد إليه القدرة على تذكر اسمه، فأي روح بلا اسم تضيع في عناء دائم وضياع الاسم يساوي ضياع الشخصية، وهذا ما فعلته الأم مع الابن الأكبر المتمرد على إرث آبائهم نزعت عنه اسمه للأبد.
المشهد الأخير
لقطات الموكب الجنائزي، الملوك الذين حكموا الإمبراطورية المصرية يرحلون لآخر مرة من الأراضي التي كانوا فيها آلهة العالم السفلي، ويمرون على المعابد التي احتضنت عروشهم ملوكا وآلهة في البعث الأخير.
بعد لجوء ونيس إلى بعثة الآثار وإطلاعهم على سر الدفينة، يأتي مشهد مكون من 28 لقطة تم تصويره في 28 يوم، كل يوم لقطة، لحرص شادي على توحيد إضاءة المشهد الطبيعية من الشمس.
إيمان شادي وقناعته بمسألة الهوية وحبه لتاريخ مصر القديم والتعريف به والرجوع إليه موصول في أعماله القليلة التي أتاح له عمره أن ينفذها.
في المومياء، تم تصوير ونيس ابن الجنوب بهيئة بها قدر كبير من الشموخ والرقي كابن حضارة عريقة، مع معاناته من هويته الممزقة بين إرث الآباء والولاء المطلق لهم، وبين رفضه العيش على نهب مقابر أجداده.
وفي المقابل شخصية أحمد افندي كمال مفتش الآثار المثقف فتى المدينة، وكيف التقيا في إشارة لأهمية الوصل بين الماضي والآتي.
نال المومياء جوائز عالمية مهمة كأفضل فيلم أجنبي من عدة مهرجانات، منها جائزة جورج سادول في باريس عام 1970 ومهرجانات أخرى في قرطاج، وإنجلترا، وإيطاليا.
محاولات الترميم
في 2009 وبعد 40 عاما على إنتاج فيلم “المومياء” و30 عاما على موت شادي، تم اختيار الفيلم من ضمن أهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية ورممت مؤسسة المخرج مارتن سكورسيزي World Cinema Project النيجاتيف ليعرض حينها في مهرجان كان احتفالا بالفيلم ومخرجه، ويعرض أيضا في مهرجان القاهرة السينمائي.
عن تفاصيل محاولة الترميم تلك، يقول دكتور مجدى عبد الرحمن أستاذ التصوير، إن شادي قرر تحميض وطبع الفيلم بإيطاليا، وأن يظل النيجاتيف هناك لسوء المعامل المصرية، ولكن بعد موت شادي أفلس المعمل الإيطالي وقام ببيع النيجاتيف للأرشيف الألماني، ويصادف أن تكون دكتورة ڤيولا شفيق (زوجة أنسي أبو سيف فيما بعد) من العاملين بالأرشيف، وتأخذ على عاتقها إرجاع النيجاتيف إلى مصر، وبالفعل يتم إرجاعه ولكنه كان فى حالة سيئة.
وعرض الفيلم على لجان بوزارة الثقافة وقامت بطبع خمسين نسخة منه، وهو ما أثر سلبا على النيجاتيف، فقام الدكتور مجدي عبدالرحمن وصلاح مرعي بمراسلة مؤسسة سكورسيزي لترميم الفيلم، وكان من ضمن قائمة يطلقون عليها orphan film، حيث تم عمل نسخة ديجيتال وعرضت بمهرجان كان احتفاء بالفيلم.
إلا أن الدكتور عبدالرحمن يرى من وجهة نظره أن ما قامت به مؤسسة سكورسيزي لم يكن ترميما، وهو ما دفعه للتواصل مع المؤسسة بعد دراسة ست أشهر وكتابة تقارير وافية عن الفيلم وضرورة التعامل معه بشكل مختلف وأن يخضع لعملية فصل ألوان (أي عمل ثلاث نسخ ملونة كلا على حدى أحمر، أزرق، أخضر)، وجاء الرد بأن التكلفة ستكون عالية، فتم الاتفاق بين المؤسسة ووزارة الثقافة في عهد فاروق حسني على دفع خمسون ألف يورو كمساهمة من الوزارة فى عملية الترميم، ولكن بالرغم من ذلك خرجت النسخة بنقاط ضعف من ناحية الألوان التى لم تعالج لأنها لم تفهم كما أرادها شادي.
والآن، هذا العام تم استعمال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لرفع جودة النسخة الديجيتال للفيلم من 1080p إلى 4K ليتم زيادة وضوح ونقاء الصورة لمستوى آخر غير مسبوق، ليبقى فيلم “المومياء” شهادة حية على عبقرية وتفرد شادي عبد السلام.
شادي عبد السلام تستحق الحب وتستحق البقاء.