تتابع على مصر بمدار السنين العديد من الحكام، منهم مk يشار إليه بالبنان ومن يشار إليه بغير ذلك، إذا لم يسبق أن حكمها ملائكة!
رُفع بعضهم بجميل ما صنع، وسقط بعضهم ببئس ما صنع! لكننا في هذه السطور لا نقيم فترات حكمهم، لا سلبا ولا إيجابا، وإنما نستأذنهم في أن يأذنوا لنا بصحبتهم ولو لمرة وحيدة على مائدة العشاء، نحن أبناء الشعب البسيط الذي لا يبيت على الحلوى ولا ينام ممتلئ المعدة!
ربما كان الملك فاروق لا يتشائم بيوم الثلاثاء كما نفعل، فاختاره كي يصحبنا فيه على مائدته، وهو يوافق اليوم الأول من فبراير عام 1938، بعد أقل من نصف عام على تبرعه فى أغسطس من العام الماضي 1937 بمبلغ 4325 جنيها للفقراء والجمعيات الخيرية، وقد شمل التبرع معظم فقراء القاهرة والاسكندرية.
ولا تستغربوا من قائمة الطعام -لا لأن فاروق هو الملك وفقط- بل لأنه ما يزال في شهر العسل بعد أن عقد قرانه على الملكة “فريدة” في يوم 20 يناير من العام نفسه، أي قبل عشرة أيام من تاريخ هذه المائدة التي شملت: “مرق دجاج- لانجوست كروينال- سمك لوت على الطريقة الموسكوفية- لحم بقري محشو على طريقة جو دار- دجاج بريس محشو- ظهر حمل على الطريقة الباريستية- فطير بالبط والترفاس- دوائر من كبد الأوز مثلجة- سما في ملكية- لسان براج مبرد- يلانجي ضولمة- ديك فيومي مبرد- سلطة قصر عابدين- هليون بصلصة الخرول- بقلاوة شرقية- فطير بأبي فروة- كريمة عثمانية- فطيرات منوعة- مثلجات شتى مشكلة- لقيمات بالخيبرى- فاكهة”.
تلك قائمة بمأدبة الطعام بقصر عابدين طبقا لأرشيف مكتبة الإسكندرية، صحيح أن الملك فاروق كان ما يزال في شهر العسل لكنك ما إن تنظر لقائمة الطعام تلك -وتسأل نفسك كم نوعا عليها تعرف؟- حتى تحتار في أمر فاروق: هل كان لتلك المائدة دور في قيام ثورة يوليو؟!
ولكثرة ما اشتهينا على مائدة فاروق، ومن عطف الملك علينا أن دعانا مرة أخرى إلى مأدبته لكن هذه المرة في قصر القبة لا في قصر عابدين، في يوم الأربعاء الموافق 29 من مارس عام 1939، ولم يكن الملك عريسا هذه المرة لذلك جاءت المائدة بسيطة -لا تختلف كثيرا عن عموم الشعب المصري الذي كان بعض قومه مازالوا يسيرون على الطرقات حفاة وربما عرايا- فاحتوت مائدته على: “مرق فاخر- لانجوست البحر الأحمر على طريقة الأميرة- سمك قاروس طهو الترنسفال- لحم عجل منمق بكبد الأوز- قوالب دجاج مبردة- سمافي مجملة- شرائح لحم على طريقة النجتون- لسان براغ مبرد- فطائر بطيور الصيد- حمل مبرد- ويكة فيومية محمرة- سلاطة ملكية- هليون بصوص متبلة- يلانج ضولمه- فطائر باني فروة- كنافة بالقشدة- بورنج- مثلجات مشكلة- فطيرات منوعة- حلوى- لقيمات بالخيبرى- فواكه”.
كانت هذه هي مائدة الملك فاروق الأول وحتما الأخير، مائدة ما عرفها أغنياء الشعب المصري لا فقراءه، ولا تبلغ معرفتنا بعض أنواعها -في العام الحالي 2021- بعد مرور أكثر من ثمانين عاما، ففيها من كل ما تشتهي الأنفس وربما يزيد!
ولأن فاروق لم يترك شيئا يأكله رئيس بعده، ولأن ثورة 23 من يونيو عام 1952 جاءت ضد طغيان الملك فاروق لا في حكمه وحده بل وفي مائدته!
فقد غير عبد الناصر المنحاز لبسطاء الناس تلك المائدة ودعاهم إليها بقصر القبة في الذكرى السابعة للثورة وتحديدا في يوم الثامن والعشرين من يونيو عام 1959، لتحتوي مأدبة الطعام بعد قيام الثورة على 11 نوعا فقط بعد أن كانت تحتوى في عهد فاروق على 21 نوعا وأصبحت في عهد عبد الناصر تحتوى على أنواع يعرفها بعض أبناء الشعب مثل “السمك والصلصة والأيس كريم وسلطة الخيار والطماطم والرقائق والدجاج والأرز وأخيرا القهوة” لكنها بالتأكيد مزينة بما يليق برئيس.
أما عن الرئيس أنور السادات الذي كان -في ظني- أكثرهم ذكاءا ومراوغة فربما أدرك حرص المصري القديم على عدم الإفراط في الطعام أو اشتهاءه حفاظا على صحته، كما تعمّد إظهار رشاقة قوام الجنسين في نقوشه ومنحوتاته الفنية، كما يتضح من نص مدون في تعاليم شخص يدعى “كاجمني” ترجمتها إلى الفرنسية كلير لالويت، أستاذة الأدب المصري القديم بجامعة باريس-سوربون.
وربما قرأ السادات في نصوص المصري القديم الذي يقول: “إذا جلست مع أناس كثيرين لتناول الطعام، فانظر إلى الطعام بلامبالاة، وإن كنت تشتهيه، فإن ضبط النفس لا يكلف الإنسان أكثر من لحظة، وعار أن يكون الإنسان شرها، فقدح من الماء يروي الغلة”.
لكنه في أغلب الظن حافظ على قوامه وخاف من زيادة الوزن كي لا يفقد لقب أشيك رجل فى العالم الذي منحته إياه مجلة “شتيرن” الألمانية.
حافظ السادات على عدد الأصناف الإحدى عشر التي كانت على مائدة ناصر لكنه لم يحافظ على ماهية أنواعها، في إشارة لم تكن لتتضح سوى بعد سنوات إذ قال بإنه سيسير على خطى عبد الناصر ثم سار في كل الخطى التي لم تطئها قدما الأخير!
حافظ السادات على ذات القصر وعدد الأصناف ذاتها لكنه لم يحافظ سوى على ماهية نوع واحد منها وهو السلطة الخضراء، لتصبح مائدة السادات بقصر القبة في يوم الجمعة 26 من نوفمبر عام 1971، أي بعد هزيمة 67 -واسم دلعها نكسة- بأربع سنوات وقبل حرب أكتوبر بعامين، تحتوي على: “جمبري بصلصة المايونيز- مرق في الفنجان – قرنيات بالجبن – لحم بتلو بعش الغراب – بطاطس محمر – خضر منوعة – ديكة محمرة طهو الفرن – أبو فروة بالزبد – سلاطة خضراء – حلوى الأناناس – فاكهة”.
وبعد أن طالعنا موائد الرحمن -أقصد موائد الطعام- لدى الملك الفاروق والرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات:
ترى من كان أكثرهم بذخا على تلك المائدة؟ وهل كانوا يعرفون الحديث الشريف الذي يقول (سمّ اللَّه وكل بيمينك وكل مما يليك)؟ من فيهم كان يسهو ولا يسمي الله؟ وأين كانت شمالهم وقت أن أكلوا باليمين؟