وقف الطفل محمد البغدادي ذو السبع سنوات يغني أمام جمهور سيرك متجول في مدينة دمنهور، القريبة من الإسكندرية. صوته الشجي أجبر الفرقة أن تعطيه فقرة غنائية، إلا أن تقاليد السيرك كانت تحتم عليه أن يدهن وجهه بمسحوق أبيض، وأنفه بمسحوق أحمر، ويغني وهو يركب حماراً.
كان مذيع السيرك يقدمه بالقول: «نقدم لكم الطفل المعجزة.. الطفل غير المعقول.. الطفل الذي يغني ويركب الحمار في وقت واحد …. إلخ»، لم يكن يسمع الطفل محمد ما يقوله المقدم قدر ما كان يفتش في وجوه الحاضرين عن وجه أبيه، خوفاً من وجوده، لا سيما أنه كان متشدداً في مسألة منعه من الغناء.
كان الطفل محمد حينها هارباً من أسرته في القاهرة، وقد أطلق على نفسه لقب «البغدادي» حتى لا يتتبعه أهله. أراد أن ينزع اسم أبيه من اسمه بأي شكل من الأشكال، المهم أنه في تلك الليلة غنّى للشيخ سلامة حجازي عدداً من الأغنيات، ما جعل جمهور السيرك يتفاعل معه، ويصفق، ويطالبه بالمزيد.
****
كان مشهد تعنيف الأب للابن معتادا في منزل الشيخ عبدالوهاب محمد، الكائن في منطقة باب الشعرية، والقريب من مقام سيدي عبدالوهاب الشعراني، الذي يُقال إنه أصل العائلة. بالمنطق، كيف يخرج من عائلة أصلها أحد أولياء الله الصالحين، مطرب أفراح ومناسبات؟.
وجاهة طرح الأب اصطدمت برغبة الابن بكل تأكيد، فقد كان محمد يفضل دندنة طقاطيق الشيخ سلامة حجازي وصالح عبدالحي على الذهاب إلى كتّاب الجامع، حيث أراد الأب أن يلحق ابنه بالأزهر، حتى يكون مثله، شيخ عامود أو إمام جامع أو حتى مؤذن في أحد أحياء القاهرة، مدينة الألف مئذنة.
كان الطفل محمد يبكي بشدة، فقد تعلق قلبه بالموالد المتعددة القريبة من مسقط رأسه، والأفراح والليالي الملاح التي يراها في حواري ومقاهي منطقة الحسين والجمالية. كان الطفل يهوى أن يقف أمام أحد المقاهى على أن يجلس القرفصاء يردد ما يقوله عليه المحفّظ في الكتّاب، ذلك رغم نبوغه وحفظه العديد من أجزاء القرآن الكريم في سن صغيرة.
لا أحدًا في البيت يريده مطرباً، الكل يريده شيخاً حافظاً للقرآن. ربما كان هذا التوجه منتشراً في كل بيوت القاهرة أوائل القرن العشرين، وربما حكى معظم نبغاء الفن حينها عن بداية عثرة لمشوارهم، وقف فيها الأهل أمام موهبة الأبناء الفنية.
نادرون من أخذوا لقب «الشيخ» كالشيخ زكريا أحمد والشيخ سيد درويش، وقليلون من نجوا وصاروا إما فنانين كبار أو شيوخ أجلاء، بينما سقط كثيرون من سطور التاريخ.
******
وقف محمد عبدالوهاب في غرفته بالفندق اللبناني بعد أن قرأ الجريدة التي حملت أخبار الأمس. مات أبوه الشيخ عبدالوهاب، قرأ نعيه بعينه وهو بعيد عن البلاد. بكى محمد عبدالوهاب وجاءه رفيق رحلته إلى لبنان الشاعر الكبير أحمد شوقي. هدأه وتحدثا عن ترتيبات العودة والعزاء وتأخر تليغراف الحزن، ولكن هناك أمر ترددا في اتخاذ قرار فيه، وهو هذا الحفل الذي جاء عبدالوهاب من أجله، ماذا يفعل فيه.
بعد مناقشات وأخذ ورد، كان القرار هو الاعتذار وعدم الغناء، فالأب الذي رفض غناء ابنه صغيراً لن يكون مرتاحاً إذا غنى في أول أيامه بالعالم الآخر.
لحظات صمت طويلة، كان محمد عبدالوهاب فيها يسترجع ذكرياته مع الأب في باب الشعرية، يستعيد كلماته القوية الحازمة، يراجع نفسه هل كان على صواب؟، هل كان من المفترض أن يستمع إلى كلام الأب؟. شعر شوقي بأن صديقه يحمل الكثير من الذكريات والآلام، فاقترح عليه أن يذهبا إلى ضيف كان من المفترض أن يحضر الحفل، لعل عنده يكون الهدوء.
******
استقبل طه حسين ضيفيه الكريمين: محمد عبدالوهاب وأحمد شوقي. عميد الأدب العربي حينها كان خارجاً للتو من معركة «في الشعر الجاهلي» التي وقف فيها يدافع عن نفسه أمام اتهامات الشيخ خليل حسنين، الطالب بالقسم العالي بالأزهر، وقد اتهمه بالطعن الصريح في القرآن العظيم، ونسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم إلى آخر ما ذكره في بلاغه.
كان العميد حينها يشعر بغصة المهزوم، فالحديث عن انتصار بعد الحادث بسنة غير معول عليه، وغير مقبول عقلاً، ربما كان يشعر بأن الزمن سيأتيه بالانتصار، وربما لا. كان العميد يتجول في البلاد سائحاً هائماً يراجع مشروعه الفكري، ومن بين الجولات ذهابه إلى عالية حيث من المفترض أن يحيي عبدالوهاب حفلاً غنائياً.
«سنسمعك اليوم يا محمد.. أرجو أن تكون موفقاً»، هكذا بدأ طه حسين كلامه بلغته الرصينة، تلعثم عبدالوهاب، لكن شوقي تدخل في الأمر: «والله يا دكتور عبدالوهاب ألغى الحفلة النهاردة، فقد أصابه حادث كبير ومؤلم، فقد توفى والده». تأسف الدكتور طه وعزاه بصوته الجهوري، ولكنه سأله بعد التعزية: «ولكن لماذا لا تغني؟»
******
وقف الشاب محمد عبدالوهاب ذو الثلاثين عاماً في أحد مسارح منطقة «عالية» بلبنان يغني لجمهور كان ينتظر سماعه بفارغ الصبر، ارتدى عبدالوهاب حينها بدلة، إلا أن وجهه هذه المرة قدد نفض مساحيق السيرك ليكسوه حزن من نوع غريب.
قدمه مذيع الحفل بالقول: «نقدم لكم محمد عبدالوهاب، المطرب المصري العاطفي، الذي يعيد سيرة العظماء من جديد ……إلخ ».
غنى عبدالوهاب أول أغانيه، وكانت من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، وتقول كلماتها:
الليل بدموعه جاني
يا حمام نوح ويايا
توحشني وإنت ويايا
واشتقلك وعينيك بعيني
واتذلل والحق معايا
وأعاتبك ما تهونش عليّ
غناها عبدالوهاب والدموع كانت تنمهر من عينيه، والغريب أن الدموع أيضاً كانت تنسال من عيون الحاضرين في الصالة، لم يكن عبدالوهاب يستمع إلى صوت مقدم الحفل، وربما لم يكن يهتم بصوته قدر ما كان يفتش بين الجمهور عن وجه أبيه الذي رحل، لعله يصفق له أو يرمقه بنظرة عتاب فيترك الميكروفون ويهبط إلى الجمهور ليحتضنه.
فكانت الليلة حسب تعبيره: «ليلة بكاء، لا ليلة غناء».
****