بجملة “أول مرة على شبكة الإنترنت”، شغل الشاب أحمد الجندي مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خلال الأيام الماضية، وبالأخص المهتمين بتراث السينما، بمجموعة من مقاطع الفيديو القصيرة التي نشرها عبر حسابه على موقع (فيسبوك)، تتضمن تترات وأغاني ومشاهد من أفلام مصرية شهيرة، لم يشاهدها الجمهور من قبل، كونها مشاهد إما محذوفة أو مفقودة أو تالفة في النسخ التي تذاع عبر التلفزيون المصري والفضائيات.
كانت البداية عندما نشر الجندي أغنية “نشيد الأسرة العلوية”، من غناء أسمهان، وهي أغنية محذوفة من جميع نسخ فيلم غرام وانتقام (إنتاج عام 1944) التي تعرض على القنوات المختلفة، حيث تم حذف الأغنية من جميع نسخ الفيلم التي كانت متاحة داخل مصر عقب ثورة 1952 كون الأغنية تمجد تاريخ أسرة محمد علي وبالأخص آخر ملوكها فاروق الأول.
ثم توالت بعدها النوادر، حيث نشر الجندي أغنية أخرى مفقودة من فيلم السعد وعد (إنتاج عام 1955)، بعنوان “أنا الحب”، من أداء نجاح سلام ومحمد سلمان وألحان كمال الطويل، حيث قال الجندي أن الأغنية هي من الألحان النادرة والمفقودة للطويل، ثم نشر بعدها مجموعة مشاهد نادرة من فيلم “عبدالله الكبير” (إنتاج عام 1955)، ويقول الجندي أنه فيلم مفقود بالألوان الطبيعية يتناول كواليس تنازل الملك فاروق عن العرش، وهو إنتاج مصري أمريكي مشترك، حيث صورت منه نسختين، واحدة بالعربية والأخرى بالإنجليزية، ولازالت النسخة العربية الكاملة مفقودة حتى الآن.
أما فيلم “الزوجة السابعة” (إنتاج عام 1950) وهو من بطولة محمد فوزي وماري كويني، فقد نشر منه الجندي أغنية بصوت شادية وألحان فوزي “كتبوا كتابها وعلوا جوابها”، حيث يقول إن الأغنية تالفة في كل نسخ الفيلم المعروضة بالقنوات الفضائية وأنه يعرضها على الإنترنت لأول مرة، إضافة إلى أغنية بعنوان “الفُل” من فيلم “قبلني يا أبي” (إنتاج عام 1947) من بطولة نور الهدى ومحمد فوزي، حيث يؤكد الجندي أيضا أن الأغنية تالفة في كل النسخ المتاحة من الفيلم، كاشفا أنه حصل على نسخة كاملة للفيلم، أزيد بـ25 دقيقة عن النسخ المعروضة على الفضائيات!
وكان آخر ما نشره الجندي -حتى تاريخ إعداد هذا التقرير- مقطع فيديو لتتر فيلم “سجى الليل” (إنتاج عام 1948)، من بطولة ليلى فوزي وعماد حمدي، والذي قال عنه الجندي أنه أول فيلم في تاريخ السينما المصرية يخلو تماما من أي أغنية، مضيفا أنه حصل على نسخة كاملة من الفيلم تتضمن التتر -التالف في كل النسخ المتاحة من الفيلم- بالإضافة إلى 20 دقيقة أخرى من الأحداث لم تعرض من قبل.
يقول الجندي لـ”عرب لايت”، أنه تفاجأ بردود الأفعال عقب نشره لأغنية “نشيد الأسرة العلوية” من فيلم “غرام وانتقام”، حيث انتشرت سريعا وسط حفاوة كبيرة من متابعيه، وهو ما شجعه على نشر مقاطع نادرة أخرى يمتلكها، مؤكدا أن كل ما ينشره عبر حسابه، هي مقاطع لم تنشر من قبل على الإنترنت حتى الآن.
كان السؤال الأبرز الذي وجه للجندي بعد توالي نشره لهذه المقاطع النادرة، هو كيف يحصل عليها؟ وهو السؤال الذي وجهناه له، وأجاب عليه بقوله إن السر يكمن في “شرائط الفيديو القديمة”، التي نسيها الجميع ولم يعد أحد يهتم بها، ويكون مصيرها في الغالب إما إلقائها في القمامة أو تذويبها لإعادة تدويرها.
وأضاف موضحا أن كثيرا من نسخ الأفلام المصرية القديمة التي كانت مسجلة على بكرات السينما التي بقيت في مصر، تعرضت إما لحذف بعض المشاهد أو حذف الأغنيات لأسباب مختلفة، مثل فيلم “غرام وانتقام”، الذي حذفت منه أغنية تمجد الأسرة العلوية عقب ثورة يوليو، كما أن بعض هذه النسخ تعرض للتلف الجزئي أو الكلي نتيجة سوء الحفظ مما أضاع على المصريين فرصة مشاهدة النسخ الأصلية لكثير من تراثهم السينمائي.
وتابع أن نسخا أخرى من هذه الأفلام، كانت ترسل إلى الخارج وقت إنتاجها للعرض في السينمات العربية والأجنبية، ولحسن الحظ فإن أغلب النسخ التي غادرت مصر لم تتعرض لما تعرضت له مثيلاتها في مصر من حذف وتلف، وهو ما أبقاها على حالتها الأصلية، وعندما ظهرت شرائط الفيديو في وقت لاحق، اهتم الكثيرون من ملاك هذه النسخ بتحويلها للعرض على أجهزة الفيديو.
وكشف الجندي أنه منذ سنوات، وهو يهوى جمع شرائط الفيديو النادرة من مختلف البلدان العربية والأجنبية الخاصة بتراث السينما المصرية، وهو ما كان سببا في تعرفه على الكثير من النوادر من الأغنيات والمقاطع التي لم تعد موجودة بالنسخ التي يعرفها المشاهد المصري، وهي نسخ جمعها من البلدان العربية، وبالأخص السعودية والعراق ولبنان، إضافة إلى أمريكا وبلدان أخرى.
فيقول مثلا إن نسخة فيلم “غرام وانتقام” الكاملة وفيلم “عبدالله الكبير” عثر عليهما في الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة صديق مصري مقيم هناك، كما عثر على نسخة فيلم “قبلني يا أبي” الكاملة لدى شركة “الصباح” في لبنان، أما السعودية فقد عثر فيها على نسخة فيلم “سجى الليل”، وكذلك نسخة من فيلم “فتح مصر” (إنتاج عام 1948) من بطولة يحيى شاهين وإخراج فؤاد الجزايرلي، وعن هذا الفيلم الأخير تحديدا يقول إنه فيلم مفقود عرفنا به فقط من الأخبار التي كانت تنشر عنه في المجلات والصحف المصرية القديمة وقت عرضه للمرة الأولى، إلا أنه لم يعرض من قبل، حيث عثر عليه مسجلا على شريط يوماتيك.
وعن العراق، فيقول إنه عثر بها على نسخة كاملة من فيلم “لست ملاكا” (إنتاج عام 1946) وهو آخر الأفلام التي شارك في بطولتها الموسيقار محمد عبدالوهاب، وتضمن الفيلم أغنيتين بالألوان، منها أغنية “عمري ما هانسى يوم الاتنين”، إلا أن نسخ الفيلم السالبة والموجبة التي بقيت في مصر فقدت نتيجة احتراق أحد الاستوديوهات الشهيرة، ولم يتبق سوى نسخة مشوهة وناقصة مدتها ساعة و20 دقيقة، إلا أن الجندي عثر على نسخة كاملة منها مدتها ساعتين على أحد شرائط الفيديو، بمساعدة أحد أصدقائه في العراق، وهي نسخة مأخوذة من بكرة الفيلم التي أرسلت إلى العراق وقت الإنتاج لعرضها في سينمات بغداد.
الجندي، الدارس للهندسة المعمارية والذي يعمل في الورقيات والكتب القديمة، يقول لـ”عرب لايت”، إنه منذ صغره وهو مهتم بتراث السينما المصرية، ويعشق البحث عن نوادرها وأخبارها، وعندما كبر أصبحت هذه الهواية جزء أساسي من روتينه اليومي يعبر عنه عبر حسابه على (فيسبوك) الذي يحمل اسم (Al Sultan Rashed)، وهو ما جعله على استعداد للإنفاق من ماله الخاص على جمع هذه النوادر وتكبد مشقة البحث عنها، دون انتظار الحصول على أي مقابل لذلك، سوى مشاركة هذه المقاطع مع المشاهد المصري الذي يفتقد لكثير من كنوز تراثه السينمائي الذي يعد الأهم في المنطقة العربية على الإطلاق.
ويؤكد الجندي أنه من القلائل في مصر الذين يهتمون بجمع تراثها السينمائي، وبالتحديد من خلال شرائط الفيديو القديمة، التي لازالت تحتوي على كنوز ونوادر لم تعد متوافرة في النسخ الموجودة بالتلفزيون المصري والفضائيات، مشيرا إلى أنه يرفض كثيرا العروض التي تأتيه لبيع النوادر التي يجمعها، مؤكدا أن هدفه من ذلك هو إخراجها للنور وليس التكسب المادي من ورائها.
وطالب الجندي من خلال “عرب لايت” أن يهتم المصريون بأرشيفهم من شرائط الفيديو القديمة، ويقومون بتحويله إلى نسخ رقمية حتى يمكن الاحتفاظ بها لفترة أطول، وألا يفرطوا فيه لأي سبب، لأن كثيرا من تلك الشرائط حفظت لنا التراث السينمائي وحمته من الضياع، متمنيا كذلك أن يستعيد التلفزيون المصري ريادته وأن يهتم بما لديه من أرشيف سينمائي استثنائي وأن يقوم بترميمه وعرضه وألا يحرم الجمهور المصري من الاستمتاع بهذه الكنوز.
وفي الأخير، عبر الجندي عن استيائه ممن يقومون بإعادة نشر مقاطع الفيديو التي يعرضها والتي يحصل عليها بعد عملية بحث مضنية وتكاليف كبيرة، دون الإشارة إليه وإلى مجهوده، مطالبا الجميع باحترام حقه الأدبي عند إعادة تداول هذه المقاطع، وعدم إزالة اسمه من عليها، مؤكدا أنه لا يريد منهم أي مقابل مادي ولكن فقد أن يحترموا مجهوده وإنجازه في إعادة إحياء مثل هذه النوادر، كاشفا أنه لازال يمتلك الكثير وسوف يقوم بنشر المزيد من هذه الكنوز خلال الفترة المقبلة.