رغم كل الأوضاع التي قد يعاني منها الأطباء في عصرنا الحالي، إلا أن نظرة سريعة على بعض أحوال الأطباء في عصر المماليك، سوف تكشف أن أطبائنا يعيشون حاليا في نعيم ما بعده نعيم، قياسا على ما كان يلقاه الأطباء في الماضي، حيث كانت وصفة دواء واحدة كفيلة بأن تقود الطبيب إلى حتفه فورا.
وهذا هو ما تكشفه قصة “روشتة” الدواء النادرة، التي كتبها الطبيب المصري شمس الدين بن العفيف حوالي عام 1438م، لعلاج السلطان الأشرف برسباي، الذي عانى من بعض الأمراض في أواخر حكمه، بالتزامن مع وباء الطاعون الذي ضرب مصر في ذلك الوقت.
الروشتة النادرة -والتي كشف عنها أمين متحف الفن الإسلامي الأسبق صبحي عيد محمد في دراسة له- عثر عليها في حفائر الفسطاط سنة 1931، وتنسب إلى شمس الدين العفيف، الذي كان يتولى رئاسة بيمارستان مصر وكان الطبيب الخاص للسلطان، وهو منصب يعادل حاليا وزير الصحة ونقيب الأطباء معا، وكتبت الروشتة على ورق أبيض بخط نسخ -لا يختلف كثيرا عن خطوط الأطباء حاليا في الروشتات التي يكتبوها لمرضاهم بالإنجليزية- وكان الهدف من هذه الروشتة هو علاج “داء في الجوف” لم يتم تحديده بشكل دقيق.
وجاء نص الروشتة كالآتي:
[الحمد لله وحده
سفوف يعرف بسفوف الكفاية من ديوان
ابن العفيف ريس مرستان مصر قال يؤخذ
فرض ربع قدح أنيسون مثله شمار مثله كمون
كرماني وزن أوقيتين.. كابلي وفيه سنانير أوقية
بذركشرت أوقية شيح شامي أوقية لوز أوقيتين
تحمص القرض والشمر ويطحنوا ويدق بقية الحوائج
وأجمعهم وضف إليهم من ماء الفجل الرملي
ثلاث أواق وماء شمر أخضر مثله وورق حزمتين
ريحان وورق حزمة نعناع وماء عنب ديب
ثلاث أوق ثم ورق حزمة مرسين
طري مدقوق وماء كرفس ثلاث أواق
فيخلط الجميع ويسقى بهم السفوف ثم يجف
ثم يعاد كذلك حتى يشربوا جميع الماء
ويضاف إليهم ربع رطل سكر أبيض
ويسف منه صباحا ومساء نافع
ذلك لداء في الجوف]
والمقصود بالسفوف هو صنف الدواء، مثلما نصنف الأدوية حاليا ما بين شراب وأقراص وحقن، أي أن الدواء من النوع الذي يسف، أما اسم الدواء نفسه فهو “الكفاية”، والوصفة بأكملها منقولة من كتاب لابن العفيف اسمه “ديوان ابن العفيف” وهو كتاب به وصفات طبية لعدد من الأمراض.
والحرص على نسبة الوصفة لابن العفيف في بداية الروشتة، هو أشبه بختم الطبيب أو توقيعه الذي يوضع على الروشتة في الوقت الحاضر للتأكيد على أن الدواء مضمون وأن الوصفة صادرة من شخص ثقة ذو خبرة.
ونلاحظ في نص الروشتة، الدقة المتناهية في وصف النبات المراد وزنه، حتى لا يضار المريض من الزيادة أو النقصان، وكذا الحرص على توضيح طريقة الخلط بين النباتات، وتحديد مواعيد تناوله، وهو نفس ما يحرص عليه الأطباء في الوقت الحاضر.
ويقول عيد محمد في دراسته، إن الأشرف برسباي كان ملكا جليلا، وكان يحب أهل العلم ويقرب إليه الأطباء ويقوم بمنحهم “الخلع”، وعلى رأسهم الرئيس شمس الدين بن العفيف.
وفي آخر دولة برسباي، وقع طاعون شهير سنة 1438م، فمرض السلطان، وشاع حينها بين المصريين أنه أكل أكلا خبيثا “ملوثا” عبارة عن “كرش البقر”، وساءت حالته حتى أنه عجز عن الحركة أو الخروج من حرجته، وهي الفترة التي يعتقد أن ابن العفيف كتب فيها تلك “الروشتة” النادرة.
ويستدل عيد محمد، على أن هذه “الروشتة” الطبية كتبت للسلطان خصيصا، كون معظم النباتات المذكورة فيها مفيدة في علاج المعدة والتهاباتها، وهي الأمراض التي كان يعاني منها السلطان في حينها.
ويضيف أنه بالرغم من أن السلطان استرد عافيته في وقت لاحق، إلا أنه أصيب نوعا ما في عقله “حصل له ماليخوليا”، وبدأت تصدر عنه تصرفات وأوامر غريبة، مثل قراره بنفي الكلاب إلى الجيزة، ومنع خروج النساء إلى الأسواق مطلقا، وإغلاق السجون وإطلاق جميع المسجونين ما تسبب في انتشار الجرائم.
وكانت نهاية الطبيب شمس الدين ابن العفيف، أن صدر مرسوم من السلطان “بتوسيطه” -أي إعدامه بالسيف وتقطيعه إلى نصفين- وسبب ذلك أن برسباي شك في أن يكون ابن العفيف قد دس عليه سما في الوصفات الطبية التي كان يكتبها له، ثم حمل الطبيب إلى أهله، وكانت واقعة مشهودة حزن لها الكثيرون، وتسببت في سخط المصريين على السلطان حتى أنهم “بالغوا في الدعاء عليه” بعد خيانته لابن العفيف.
اللافت، أن كثير من النباتات التي ذكرها ابن العفيف في الوصفة التي تسببت بمقتله، لازال المصريون يستخدمونها حتى الآن في علاج بعض أمراضهم، ضمن الوصفات الشعبية التي تنتشر بين البسطاء.
–مصدر المعلومات المذكورة، هو دراسة بعنوان “تذكرة دواء نادرة من عصر برسباي” لأمين متحف الفن الإسلامي السابق بالقاهرة صبحي عيد محمد، نشرت في المجلد الثالث من كتاب “دراسات آثارية إسلامية”، صادر عن متحف الفن الإسلامي 1988–