“عجيب أمر السيدة آسيا الكوكب السينمائي الساطع…
فهذه السيدة النابغة شعلة من الكفاح والعمل لا تنطفئ، وهى لا تدخر جهدا في سبيل ترقية صناعة السينما في مصر، فهي في حركة دائمة لا تتوقف، ولا يكاد الناس يتزاحمون على فيلم ناجح لها حتى تفاجئهم بأنباء فيلمها الجديد”.
كانت تلك الكلمات بعض مما جاء بموضوعات مجلة آخر ساعة سنة ١٩٣٥، والتي لم يكن يخلو عدد من أعداد المجلة من موضوع عن آسيا أو أخبار أو إعلان أو أفيش لآخر أعمالها.

اللبنانية المولودة سنة ١٩٠١ لأسرة ثرية، جاءت إلى القاهرة وكانت خيوط الضوء الفضي القادم من شاشات العرض تنير القاهرة، لتبدأ آسيا مشاهدة ما كان يعرض في دور السينما الصامتة وقتها، حتى قامت بالمشاركة في إحدى تلك الأفلام وقدمت دوراً في فيلم ليلى.
وبعدها بدأت آسيا أولى خطواتها الجادة لمسيرة امتدت بطول عمرها.
فأسست سنة 1927 شركة “لوتس فيلم” للإنتاج والتوزيع السينمائي، الشركة الأقدم والأكثر استمرارية لفترة طويلة في تاريخ صناعة السينما.
وفي سنة 1935 أنتجت آسيا الفيلم الخامس لها “شجرة الدر” عن قصة لجورجي زيدان، وتولى أحمد جلال المعالجة السينمائية والإخراج، والذي تم تصويره في فندق هليوبوليس بالاس، ودار الآثار العربية (متحف الفن الإسلامي حاليا) لما فيهما من شبه كبير بقصور عصر الأيوبيين والمماليك.


فالفيلم مدته 125 دقيقة من الدقائق الثمينة المنسية من التوثيق التاريخي للسينما، فالمعلومات المتاحة عنه قليلة، ولا توجد له نسخة محتفظ بها، ولا يوجد من شاهده، وبالتالي فنحن لا نعرف على أي وجه خرج الفيلم للنور، ولكن يبدو أن الفيلم قد وثق لنفسه من خلال الأخبار المتداولة عنه في حينه.
فقد أشارت الأخبار إلى أن السيدة آسيا اعتزمت السفر الى أوروبا لشراء أحدث ماكينات التصوير، وكذلك الآلات التي اخترعت مؤخرا لتسجيل الصوت، وإحضار المهندسين والفنيين من أوروبا لتركيب الآلات الجديدة استعدادا للفيلم.
وذكر أيضا من ضمن ما ذكر من أخبار الفيلم في إحدى الصحف: “أن الشركة جمعت نحو الألف فرد لتصوير مشهد واحد لا يستغرق عرضه أكثر من دقيقة ونصف، فإذا حسبنا للفرد الواحد أجراً قدره عشرة قروش فقط، لتبين لنا مقدار التكاليف الباهظة التي تقوم بها شركة لوتس. وقد استأجرت السيدة آسيا جيشاً جراراً من الترزية يواصلون عملهم ليلا ونهاراً في حياكة آلاف البدل اللازمة للجنود”.
كما ذكرت أخبار عن نية السيدة آسيا لعمل نسخ من الفيلم ناطقة باللغة التركية، ونسخ أخرى باللغتين الفرنسية والإنجليزية، رغبة منها في التعريف بالأفلام المصرية في الخارج.


وتشير الأخبار كذلك إلى أن آسيا رأت بأن تفعل مثل شركات الإنتاج الأمريكية حيث تحتكر العرض الأول لأفلامها في دور العرض المملوكة لها “ولما كانت شركة لوتس فيلم لا تقل في نظر أصحابها على الأقل عن مترو جولدن ماير وباراماونت ووارنر برذرز، ولما كان فيلم شجرة الدر أعظم فيلم أخرج في الشرق حتى الآن، فيجب أن يعرض في دار لوتس… ولكن لم يسمح الوقت بتشييد دار عرض خاصة بالشركة فكان الحل البديل أن تستأجر لحسابها أفخم دار للسينما في الشرق على الإطلاق، وهي الدار الوطنية الكبرى، دار مسرح التمثيل العربي التي تديرها شركة مصر للسينما والتمثيل بحديقة الأزبكية”.
وبعد العرض كان للنقد الفني دوره في خلق صورة ذهنية للقارئ الذى لم تتح له فرصة المشاهدة أن يرى الفيلم بعين من كتب عنه.
فكتب جمال مدكور بجريدة الصباح رؤيته للفيلم حيث قال إنه ” ليس من السهل إخراج فيلم تاريخي لأنه يتطلب مالا ومجهودا، وقد كان الفيلم مخاطرة من آسيا والمخرج أحمد جلال رغم أننا مازلنا في أول عهدنا بالسينما”، مؤكدا أن جلال جدير بالتشجيع، ولكن ينقصه إدارة مجاميع الكومبارس والتحكم بطريقة تحركهم.
وأضاف مدكور: “أما أكثر ما أخذ على الفيلم كان تصويره صامتًا ثم عمل الدوبلاج له، فالدوبلاج بتلك الطريقة يتطلب من الممثل مجهودا لمطابقة حركة شفاهه لتعبيراته، لأن الصوت يسجل منفصلًا بعد تصوير الشريط، ولكن بطبيعة الحال فتلك ضريبة الأعمال الرائدة.. المجازفة والتجريب وتقديم الرؤية”.
وتابع مدكور معلقا على أداء الممثلين: “وقد أشاد النقاد بآسيا كممثلة ونجاحها في أداء شخصية شجرة الدر، ولكن عبدالرحمن رشدي مع إجادته الدور إلا أنه لم يوفق في المشاهد الغرامية لعدم مناسبة شكله وعمره لتلك المشاهد، أما ماري كويني فقد أحسنت ولها مستقبل في التمثيل بالرغم من لهجتها، وبالنسبة للمكياج فقد كانت الذقون والشوارب متناسقة مع سمات رجال العصر الأيوبي”.


وحظي الفيلم بإقبال لم تشاهد القاهرة مثله من قبل، فقد كانت دار سينما حديقة الأزبكية تمتلئ كل ليلة بالمتفرجين، ونتيجة لهذا النجاح الكبير، حرص رئيس الوزراء المصري حينها مصطفى باشا النحاس على حضور الفيلم وتهنئة آسيا على مجهودها.
كذلك وثق الفيلم لنفسه من خلال أفيشاته العديدة النادرة التي يتجاوز عمرها الـ ٨٨ عاما والتي نستطيع من خلالها التعرف على بعض تفاصيل الفيلم والفترة الزمنية التي أنتج فيها.
فالاحتفاء بالشركة والفيلم كان دائما أساس الأفيش، فكان يذكر في أحد تلك الأفيشات: “لوتس فيلم، أقوى شركة إنتاج سينمائية مصرية، تعرض باستمرار في أفخم دار مصرية، سينما مسرح الأزبكية، رواية شجرة الدر، على رأس كواكبها النجمة الفاتنة آسيا، ماري كوينى، عبدالرحمن رشدي، حسين مختار، عطا الله ميخائيل، نازك رشيد، حسين فوزي، المطربة مفيدة أحمد، وممثل 1000 ممثل وممثلة آخرون، من إخراج الأستاذ أحمد جلال، يعرض كل يوم ثلاث حفلات، كل يوم جمعة وأحد حفلات نهارية بأسعار مخفضة”.
وقد حقق الفيلم نجاحا باهرا، وتم مد فترات عرضه أكثر من مرة.
وبالرغم من أن شخصية “شجرة الدر” تم تناولها بأكثر من عمل فني لاحقا، إلا أن القيمة الأعلى تبقى للفيلم الذي أنتجته آسيا، نظرا لريادته، وموضوعه، وتوقيته، وميزانيته، ونظرا لشجاعتها في إنتاجه والمراهنة على النجاح.
وتبقى للأسف الخسارة، في ضياعه وعدم إتاحة الفرصة للأجيال الجديدة لمشاهدته.

نشر في “جريدة القاهرة” بتاريخ 4 يونيو 2023.